No Script

خواطر صعلوك

الخروج بملابس المسرح!

تصغير
تكبير

إرفنج جوفمان أشهر علماء الاجتماع، الذين اهتموا بدراسة الوحدات الاجتماعية الصغرى خلال ستينات وسبعينات القرن العشرين، وحاول أن يفك لغز تصور الإنسان لنفسه في الحياة اليومية.
وبمشكل مختزل عزيزي القارئ أحاول أن أسير في اتجاه مقاربة جوفمان وتصوره عن التفاعل الاجتماعي، والتلاقي بين البشر.
يشير الرجل إلى أن كل شخص فينا يؤدي دوراً اجتماعياً لا يختلف عن دور الممثلين في المسرح، وقدم وصفاً مختصراً لمسرحة العالم، عندما أشار إلى الأدوار المختلفة التي يقوم بها «جرسونات» المطاعم الفاخرة، حيث السلوك المهذب المبالغ في الاحترام الذي يبدونه لرواد المطاعم، وسلوك آخر أكثر تهاوناً بل أكثر استهتاراً وتهكماً في الواقع أثناء تعاملهم مع زملائهم من «الجرسونات» والعمال داخل المطبخ.
ملاحظة ذكية يقدمها جوفمان من أجل أن يشير إلى أننا لا نغير فقط الأدوار التي نؤديها، ولكننا أيضاً نتمتع بذوات/‏ شخصيات متعددة، تظهر كل واحدة منها في ثنايا تنقلنا من مجال تفاعلي إلى مجال آخر.
تجد نفسك عزيزي القارئ أمام هذه الملاحظة مكتوف اليدين، حيث يقول لك عالم الاجتماع الأشهر في القرن العشرين إنك تخرج إلى الشارع بملابس المسرح، وإنك في منزلك ومع زوجتك تكون شخصية، وفي تنقلك إلى العمل وأثناء سيرك تتجلى شخصية أخرى في مجال تفاعلي آخر، قد يكون الشارع أو المرور بحارس الأمن في المبنى أو زميلك في العمل أو زميلتك في القسم أو مع شرطي المرور.
لذلك فإن أفضل تعريف يتوافق مع الشخص عند جوفمان، هو ذلك الممثل الذي يلعب دوراً، وهذا الدور يعمل من خلال التفاعلات مع الآخرين.
لا يوجد بطل واحد أو ذات واحدة في «مسرحية» حياتك الخاصة، لأنك في الواقع تخلق واقعك المسرحي حيث تقوم بلعب أدوار متعددة بسيناريوهات مختلفة، وترتدي ما يناسب شكل التفاعل الذي يناسب طموحك وما تريده من الآخرين، حيث سلوكنا في حضور الآخرين هو عبارة عن أداء يقاس نجاحه أو فشله في مدى القدرة على المحافظة أو التلاعب في انطباعات الآخرين عنا.
وهذا لا يعني بالضرورة أنك «منافق اجتماعي»، بقدر ما يعني أن ذات الشعور بالواجب، تجعلنا نظهر دائماً في صورة أخلاقية راسخة، والمكسب الذي نحصل عليه من ذلك الظهور، أي أن نكون شخصيات منشأة اجتماعياً، تضغط على المرء ليمارس دور الشخص الأخلاقي بالطريقة التي يؤدي بها الممثل دوره على الخشبة.
مما يجعل العلاقة مع الآخرين إدارة مستمرة للعرض المسرحي، سلسلة متتالية من العروض الذاتية.
تثير هذه النظرية الاجتماعية مجموعة تساؤلات حول حقيقة وطبيعة الهوية الشخصية، وقد نضيف إليها اليوم الهوية الرقمية. وتثير سؤالا مهما حول حرية الاختيار في أي المسارح التي نرتادها ونريدها، هل فعلا نتمتع بمجموعة ذوات أو شخصيات لا بد فيها من وجود الآخرين لكي تتحقق؟، هل تختلف قيم هذه الذوات أم يعاد ترتيب أولوياتها حسب فضاء التفاعل، أم أنها ذات واحدة بقيم متنوعة حسب الفضاء التفاعلي؟
تثير هذه النظرية سؤالاً كبيراً جداً مفاده: إلى أي مدى نحن صادقين مع أنفسنا في السر والعلن، وفي الفضاء المفتوح والفضاء الخاص؟ وهل نعيش في المسرح حيث نعلب أدواراً مختلفة في السلوك؟
الوعي الذاتي هو مقدرة الإنسان على تمثّل الدور، فالتوقعات التي تكون لدى الآخرين عن سلوكنا في ظروف معينة، هي بمثابة نصوص يجب أن نَعيها حتى نُمثلَها، على حد تعبير جوفمان... والسؤال: إذا كانت الشخصية تظهر من خلال ثنايا تنقلنا من مجال تفاعلي إلى مجال آخر، فأي واحدة هي من ستظهر في المجال التفاعلي الذي لا يحمل فيه المؤدي المسرحي أو حامل «الذوات» خبرات سابقة؟
لا أدري... ولكني أعتقد أن نوايانا الداخلية التي لا يعلمها إلا الله تجاه الأفراد والجماعات، هي ما تشكل تفاعلانا وتلاقينا الاجتماعي؟
أعتقد أنه في النهاية، وحتى لو كنا نؤدي الأدوار على طريقة جوفمان... فما زال لدينا قدرة الاختيار حول أي المسارح نرتاد، وأي الأدوار التي يمكن أن نلعبها وفق تشكل نوايانا الداخلية وليس النصوص المتوقعة منا.

@moh1alatwan

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي