No Script

زيارة غير عادية للسعودية

تصغير
تكبير

ليست زيارة رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي للرياض حدثا عاديا. تكفي نظرة الى البيان الصادر عن الزيارة والمحادثات التي اجراها مع كلّ من الملك سلمان بن عبدالعزيز ووليّ العهد الأمير محمد بن سلمان للتأكد من ان هناك حال مخاض يمرّ فيها العراق الذي يبحث عن هوية جديدة له بعيدا عن النفوذ الايراني أوّلا وعن عقد الماضي التي تحكّمت بعلاقاته مع العرب الآخرين ثانيا واخيرا.
تضمّن البيان إشارات عدّة توحي بوجود رغبة في إقامة نوع من التوازن بين العراق من جهة وكلّ من ايران والدول العربية، على رأسها المملكة العربية السعودية، من جهة أخرى.
قبل كلّ شيء، تحدث البيان السعودي - العراقي عن «الروابط التاريخية المتينة التي تجمع بين البلدين الشقيقين، وعن ترسيخ للعلاقات وللرغبة المشتركة للدفع بها نحو آفاق أوسع، واستثمار الإمكانات الكبيرة والفرص المتاحة لتعزيز التعاون القائم في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية». تطرّق ايضا الى «أهمّية استثمار هذا الإرث السياسي والتاريخي والديني، وتعزيز العلاقات انسجاماً مع توجه القيادتين». وأشار الى انّه «على هامش الزيارة، عقد الاجتماع الأول للجنة الشؤون السياسية والأمنية والعسكرية، برئاسة وزيري خارجية البلدين».


هناك، اذا، كلام عن «ارث سياسي وتاريخي وديني» وعن «تعاون سياسي وامني واقتصادي». هذا ما حاولت ايران الغاءه منذ سلمتها إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضّة في مثل هذه الايّام من العام 2003. ارادت ايران وضع العراق في خانة الدول التي تقع كلّيا تحت هيمنتها. لم يعد سرّا ان الاحتلال الاميركي للعراق قبل 16 عاما مهّد لانطلاقة جديدة للمشروع التوسّعي الايراني في المنطقة. وهو مشروع وقف العراق عائقا في وجهه بين العامين 1980 و 1988 لكنّه ما لبث ان افسح له في المجال لالتقاط أنفاسه عندما قام صدّام حسين صيف العام 1990 بمغامرته المجنونة في الكويت محاولا الغاء وجود دولة عربية لم تقصّر معه في السنوات الثماني من الحرب مع ايران.
ما يكشفه البيان ان عبدالمهدي، الذي وجد نفسه في موقع رئيس الوزراء لأسباب مرتبطة الى حدّ كبير برغبة ايران في تصفية حساباتها مع سياسيين عراقيين شيعة، على رأسهم حيدر العبادي، مضطر الى التعاطي مع واقع جديد. يتمثل هذا الواقع في استيقاظ الروح الوطنية العراقية مجددا عبر شخصيات شيعية من بينها عمّار الحكيم ومقتدى الصدر وحتّى العبادي نفسه.
تجد هذه الروح الوطنية دعما لدى المرجع الشيعي علي السيستاني المقيم في النجف الذي كان لديه موقف واضح عندما زاره الرئيس الايراني حسن روحاني، اذ فصل بين المصالح العراقية والمصالح الايرانية، كما انتقد بطريقة مبطنة التدخلات الايرانية في العراق عبر الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري»، الذي كان الى ما قبل فترة قصيرة كثير التردّد على بغداد وغير بغداد.
ليس سهلا على شخص مثل عبدالمهدي اتخاذ موقف متوازن بين الخليج العربي من جهة وايران من جهة أخرى. يؤكد ذلك تأنيب «المرشد» الايراني علي خامنئي له ودعوته الى الوقوف في الصفّ الايراني، خصوصا بعدما ابدى تفهمّه لحاجة العراق الى القوات الأميركية والى الانفتاح على الخليج العربي في الوقت ذاته.
لا شكّ ان المملكة سهّلت على رئيس الوزراء العراقي مهمّته وذلك عندما زار في بغداد قبل فترة قصيرة وفد سعودي كبير ضمّ مسؤولين كبارا ومجموعة من رجال الاعمال والمستثمرين. لم تتردّد المملكة في تقديم مساعدة بمليار دولار من اجل بناء مدينة رياضية في العراق. ثمّة فارق كبير بين دولة عربية تسعى الى إقامة علاقات طبيعية تخدم المصالح المشتركة مع العراق وبين دولة مثل ايران تريد العراق كوكبا يدور في فلكها. اكثر من ذلك، ان الاستثمار الايراني الوحيد في العراق هو استثمار في اثارة الغرائز المذهبية التي يبقى «الحشد الشعبي» افضل تعبير عنها.
ما تريده ايران من العراق هو ان يكون تحت جناحيها وان تكون علاقاته مع العالم الخارجي عبر طهران وما تقرّره طهران. ما تريده ايران ايضا هو ان تتكرّر في العراق التجربة التي لا تؤمن بغيرها. هذه التجربة هي حلول الميليشيات المذهبية التي يحرّكها «الحرس الثوري» مكان القوى النظامية، أي الجيش والشرطة. تريد ايران ان يكون «الحشد الشعبي» كلّ شيء في العراق مثلما تريد ان يكون «حزب الله» كلّ شيء في لبنان و«انصار الله» كلّ شيء في اليمن وان تكون سورية مرتعا لميليشيات مذهبية عراقية وافغانية...
ليست زيارة عبدالمهدي للرياض سوى خطوة أخرى في الطريق الصحيح. ليس مستبعدا ان تعمل ايران على افشال كلّ ما اسفرت عنه الزيارة بما في ذلك فتح المعابر البرّية بين البلدين على رأسها منفذ عرعر الذي بقي مسدودا طوال ثلاثين عاما. هناك عمل جدّي على تطوير هذه المعابر والمنافذ كما بين الدول المتحضّرة في أوروبا.
لعلّ اهمّ ما في الانفتاح المتبادل بين العراق والسعودية انّه يقوم على مفاهيم مختلفة بعيدا عن الشعارات الفارغة وعن رهان ايران على ان لا استمرارية في السياسة السعودية. يحتاج العراق الى عمق عربي وخليجي تحديدا في حين تمتلك المملكة شركات وفيها رجال اعمال يتطلعون الى الاستثمار في العراق، هذا البلد الذي كان مفترضا ان يكون البلد الاهمّ في المنطقة نظرا الى ما يمتلكه من ثروات، بما في ذلك الثروة البشرية والمائية، فضلا بالطبع عن ثروة النفط.
في النهاية، سيعتمد الكثير على ما سيشهده العراق من تطورات في المرحلة المقبلة وعلى ما اذا كانت ايران ستستوعب انّ الردّ على العقوبات الأميركية، وهي عقوبات في غاية الجدّية، لا يكون بالتهديدات والدفاع عن «الحرس الثوري» ودوره التخريبي في المنطقة كما يفعل روحاني. هناك شروط لا بدّ لإيران من التزامها والرضوخ لها. ترجمة ذلك تحوّلها الى دولة طبيعية في المنطقة وليس قوّة إقليمية تمتلك مشروعا توسّعيا.
هل ايران قادرة على الاستجابة لمتطلبات المرحلة المقبلة والتحديات الجديدة بدل اعتبار الموقف الاميركي من «الحرس الثوري» بمثابة «إهانة» لها على حد تعبير روحاني؟
ان الجواب عن هذا السؤال سيعني الكثير. سيعني اوّلا ان ايران مستعدة للعب دور بناء في المنطقة بعيدا عن عقدة تفوق الفرس على العرب. كذلك، سيعنى ان ايران دولة طبيعية تهتمّ برفاه شعبها اوّلا، دولة قادرة على الاستفادة من توجّه العراق والسعودية الى اقامة علاقات طبيعية بينهما تستند الى المصالح المشتركة بديلا من الاستثمار في الميليشيات المذهبية وفكرة الدويلة داخل الدولة وتصدير «ثورة» ليس لديها ما تعطيه غير البؤس والدمار...

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي