No Script

مثقفون بلا حدود

المفكر التونسي مختار الفجاري (3 من 3)

No Image
تصغير
تكبير

أين المفكر التونسي مختار الفجاري من هذه المسائل التي تناولتها الآيات ألا تحتاج على تأويل وتفسير؟! أيعقل أن يعجز العقل العربي عن فك رموزها؟ وكنا قد فسرناها وأولناها بحسب ظننا وإعمالا لعقلنا، وسنفرد مقالاً خاصاً بذلك ومنها الآتي:
لفت نظري وأنا أقرأ القرآن الكريم في قوله تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» الحشر: 23، كلمة «المؤمن»؛ فوقفت عندها متأملاً ومتسائلاً: إذا كنت أؤمن بالله، وغيري أيضاً يؤمن بالله، ويطلق عليه مؤمن بالله، ويطلق علينا مؤمنين بالله. فكيف يطلق الله سبحانه وتعالى على نفسه مؤمن؟ فهو عز وجل يؤمن بمن وبماذا؟ وجنح بي التفكير حتى حضرني قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...» البقرة: 30. وهنا قلت - ولله المثل الأعلى - إذا كان المرء منا حين يتخذ قراراً بعد قناعة ودراسة؛ فهو يؤمن بهذا القرار الذي اتخذه، ثم ربطت الآيتين ببعضهما، فوجدت أن الله سبحانه وتعالى مؤمن بقراره في خلق الإنسان أولا، ثم جعله خليفة له في الأرض، وهو سبحانه وتعالى مؤمن بعظيم صنيعه لهذا المخلوق الذي أطلق عليه (الإنسان) والله أعلم.
ومن الآية الأولى التي وردت فيها كلمة (مؤمن) إلى الآية الثانية التي رد الملائكة على قول الله تعالى «... أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء...» البقرة: 30، هنا أقف على مستويات عدة في الخطاب القرآني:
الأول: شاورهم الله في الأمر، وقد حقق عز وجل مبدأ الشراكة في السماع والرأي، ولا أقول في الملك؛ فالحاكم حين يسمع لرعيته ووزرائه لا يعني هذا أنهم شركاء له في ملكه وكرسيه، وهذا ما حصل مع بلقيس حينما طلبت المشورة من وزرائها، وهذا ما طلبه سيدنا موسى من الله عز وجل بأن يكون أخوه وزيراً له يستشيره، ويشاركه في أمر الحكم والعبادة والطاعة، ويسانده في الملمات، وهنا يتحقق مبدأ موالاة الأقارب، قال تعالى: «وَاجْعـَلْ لي وَزيراً مـِنْ أهلي* هـَارونَ أخـَي* أشْدُدْ بهِ أزْري* وأشْرِكـْهُ في أمْري* كيْ نُسبِّحكَ كثيراً» طه: 33.32.31.30.29. وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» آل عمران: 159، وامتدحنا الله سبحانه وتعالى قائلاً: «... وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...» الشورى: 38. والله أعلم.
المستوى الثاني: ترك الله عز وجل للملائكة مساحة للحوار وحرية إبداء الرأي، وهم المسيرون؛ فما بالك بالإنسان المخير في تصرفاته وأعماله. والحوار هنا جاء بصيغة النقد للإنسان الذي سوف يخلق، وليس نقدا للذات الإلهية؛ فكون الإنسان مخيرا بتصرفاته وأعماله فمن الطبيعي جدا أن يصدر منه الفساد وسفك الدماء... ومن الطبيعي جدا أن تكون تصرفاته إما خيرا أو شرا. والله أعلم.
المستوى الثالث: أن الله سبحانه وتعالى في النهاية هو صاحب القرار الذي اتخذه وآمن به جل شأنه، فالمشورة يستأنس بها الحاكم وليس بالضرورة الأخذ بها؛ لأنه دائماً وأبداً تكون لديه بصيرة نافذة، ورؤية خفية يصل إليها الحاكم بحـسّه وحدسه، لا يصل إليها البقية، وإلا لماذا أصبح حاكما؟!
والله سبحانه وتعالى قال للملائكة: «إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» البقرة: 30، وقد أثبت وبرهن على ذلك عز وجل وتقدس حكمه وبيانه حينما: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» البقرة:31، وصدق الملائكة هنا في ما ذهبوا إليه بأن الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، وهذا تعميم لا يستقيم مع ما خلق الله وصنع هذا الإنسان الذي سيعمر الأرض وهو الأصل في فطرته التي فطره الله عليها - والله أعلم - إلى قوله تعالى: «قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ» البقرة: 33. والله أعلم.
المستوى الرابع: احترام الحوار وتقبل النقد، والاقتناع بحجج وبراهين الرأي الآخر، والتنفيذ قال تعالى: «قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» البقرة: 32، والتنفيذ حيث قال تعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» البقرة: 34. والله أعلم.
المستوى الخامس: من يخرج عن رأي الجماعة يكون منبوذا، فإذا خرج الفرد عن رأي الجماعة وتعصب لرأيه وتمسك بقوله؛ فإنه سيعيش وحيداً منفرداً قال تعالى لإبليس حينما رفض السجود لآدم مخالفا رأي الجماعة: «قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ» الأعراف: 18. والله أعلم.

* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي