No Script

حسان دياب: شقاء الطموح...!

تصغير
تكبير

في منتصف السبعينات من القرن الماضي، سألتُ رئيس وزراءٍ سابق عمّا آلت إليه آلام الديسك الذي كان يشكو منها قبل تولّيه رئاسة الحكومة، فقال لي: «عبدالرحمن، كبّر عقلك، الحكم بيشفي...».

والحق فإن رئيس الوزراء الراحل كان من خيرة السياسيين وقام بما يتوجّب عليه، لكن جوابه - وإن مازحاً - كان يشي بأنّ الحكم عزّ وإنه يُشعِر المرء بالراحة، لذلك فإن آلام الديسك قد تلاشت!

بمناسبة هذا الكلام، الثقة التي مُنِحت لحكومة الدكتور حسان دياب والذي نتمنّى له كل التوفيق في مهامه الجسيمة. ويقينه أن إختياره، كان الاختيار الحسن. ذلك أن إحدى مزايا دياب أن ترشيحه لرئاسة الحكومة جاء خارج الأسماء التقليدية والتي يتم تداولها عند التحدث عن اختيار رئيس جديد للحكومة، فالمعايير الواجب اعتمادها للاختيار يجب أن تتمحور حول تمسّك المسؤول بمبادئ الحوكمة، النزاهة، الاستقامة وصواب الرأي... ولا شيء غير ذلك!

ويا حبّذا لو ينطبق ذلك أيضاً على كل الرئاسات إذا لا يجوز أن يكون لبنان واللبنانيين رهائن أسماء محدّدة، علماً أن البلد يزخر بطاقات متميّزة ومميّزة. وإني على يقين في ضوء المهام المُلقاة على عاتق رئيس الحكومة الجديد فإنه لن يشعر... بالراحة! فالمطلوب جهد متواصل وشقاء لتحقيق الأهداف المرجوّة. قال دياب أنه سيعمل على خطط عمل اصلاحية في فترة لا تزيد عن المئة يوم. وللتذكير فعبارة 100 يوم تعود أساساً إلى الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت، بُعيد اطلاقه عام 1933 لما سُمِّي new deal. وأقولها بصدق فليس من المتوقّع من الرئيس دياب محاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة ولا حتّى على سبيل المثال لا الحصر إنهاء عقود خمسة آلاف مواطن لبناني تم إدخالهم إلى القطاع العام قبيل الانتخابات النيابية الأخيرة (والسؤال كيف وافق رئيس الحكومة آنذاك على ذلك؟) ثم انّ الحلول المطروحة لمعالجة الوضع النقدي المتردّي أضحت حلولاً تقنيّة.

ولا نريد أيضاً أن نحمّل الرئيس دياب ما لا طاقه له به. فالسياسة الخارجية في لبنان مسألة شائكة ذلك أن هذا البلد الصغير مُكبّل بأغلال إقليمية أضحت معروفة بدليل صور قاسم سليماني المنتشرة على طريق المطار! المطلوب ببساطة اليوم اليوم وليس غداً حل مشكلة الكهرباء! فلقد «وازت كلفة دعم خطط الكهرباء الهزيلة نسبة 52% من الدين العام وذلك ابتداءً من 2010 لـ 2019» (مروان اسكندر، «ماذا بعد؟»، «النهار» 7-2-2020).

منذ الاستقلال شهد لبنان عمليات فساد متنوعة كان أبرزها ما قام به شقيق الرئيس بشارة الخوري والذي لُقّب بـ «السلطان سليم» هو وبطانته. عهود لاحقة شهدت إلى حد ما موجات من الفساد «المتواضع» بالإمكان وصمه بما نشهده حاليّاً بالفساد «المقونن».
فعلى سبيل المثال لا الحصر فالتاريخ السياسي اللبناني يذكر فضائح صواريخ «كروتال» زمن الرئيس شارل حلو و«البوما» زمن الرئيس أمين الجميّل، إضافة إلى صفقات من هنا وهناك وصمت العهود الرئاسية السابقة، أما فضيحة الكهرباء وما رافقها ويرافقها من أقاويل فلا مبالغة في القول أنها أضحت فضيحة على المستوى... القومي. ولعمري فإن لبنان لم ولن يشهد مثيلاً لها!!!
أتخيل أن لسان الطبقة الحاكمة التي عاثت في الأرض صفقات وسمسرات كالتالي: الكهرباء لنا ولكم. النفط لنا ولكم ولهم. أحد مدارج مطار بيروت وقسم من الحوض الخامس والمعابر غير الشرعية فقط، لهم. الاتصالات لكم ولنا. اذا كان اللبنانيون يذكرون بالخير الرئيسان بشارة خوري ورياض الصلح ورفاقهم لجهودهم في الحصول على الاستقلال عام 1943 ولو أن الناس مع الأسف الشديد تشعر بحنين إلى الانتداب الفرنسي في ضوء الدرك الأسفل الذي وصلنا إليه، حيث كانت الأوضاع أفضل وأحسن إن لم تكن أقلّ سوءاً!

واذا كان اللبنانيون أيضاً يذكرون الرئيس فؤاد شهاب لما حقّقه من إنجازات ساهمت في بناء دولة المؤسسات... فلا غلو ولا مبالغة في القول أن اللبنانيين سيذكرون الدكتور دياب في حال اعتمد الحل الأكثر نجاعة والأقل كلفة لمشكلة الكهرباء العويصة، بعيداً عن طروحات «التيّار الوطني الحر» الذي استبدّ بهذا القطاع منذ عشر سنوات.

تصوّروا إلى ما وصلنا إليه: الكهرباء أضحت أهميتها بموازاة الاستقلال عن الفرنسيين وعن بناء الدولة! يا لهذا الانحطاط الذي وصلنا إليه. دعونا نُشهِد (بضمّ النون وتسكين الشين) شاهدٌ من أهله.

ففي مقال حمل عنوان «الفرصة الأخيرة» («النهار» 9-2-2019) قال وزير المالية الصديق غازي وزني أن إصلاح قطاع الكهرباء يُعدّ من الاولويات لتصحيح المالية العامة، مؤكّداً إن عملية الإصلاح تبدأ عبر الشراكة مع القطاع الخاص ورفع التعرفة تدريجيّاً والابتعاد عن استئجار البواخر وتحديد سقف لدعم مؤسسة كهرباء لبنان، لا يتجاوز المليار دولار سنويّاً.

والثابت أن ما تضمّنه البيان الوزاري من حلول لمشكلة الكهرباء هو نسخة طبق الأصل عن ما سبق وطرحه وزير الطاقة الأبدي (!!!) جبران باسيل، فالثابت أن وزراء الطاقة الذين تعاقبوا على الوزارة بعد باسيل إنما تولّوها بالإنابه عنه فبقي هو الوزير الأصيل علماً أنه كان وزير الخارجية!
فالمسألة، أضحت مسألة عائلية، وهكذا انتقلت وزارة الطاقة من جبران إلى سيزار ومن سيزار إلى ندى ومن ندى إلى روي! والحقّ، فإنّ الوضع المأساوي الذي وصلت إليه مشكلة الكهرباء في لبنان لا يتحملها فقط باسيل بل كل رؤساء الحكومات السابقين، فرئيس الحكومة حسب الدستور هو رئيس الوزراء جميعاً ورئيس كل الوزارات، وكان من المتوجب على رؤساء الحكومة منذ عام 2009 لحينه أن يقفوا بالمرصاد لكل تلك الخطط التي ثبُت فشلها.

ولو كنت مكان وزير الطاقة الأبدي (!!) باسيل لكنت منعاً للأقاويل والاتهامات قلتُ، هذه بضاعتكم رُدَّت إليكم. لا أريد أن أتحمّل أكثر مما تحملت من أقاويل، لقد غسّلت يدي، إني بريء من دم الكهرباء، كما غسّل بيلاطس يديه من دم الصديق!!

مشكلة الكهرباء لا بل مأساة الكهرباء في لبنان أننا في بدايات القرن الواحد والعشرين ولا يزال بلد النور والإشعاع يئنُّ ويتألّم من مشكلة انقطاع الكهرباء وتأثيرها على العجز العام والموازنات. وأتمنى على رئيس الحكومة أن يكون مدركاً لأهمية هذا الموضوع وأن لا يتجاوب إلا مع الحلول المنطقيّة والتي تفي بالغرض بعيداً عن الطروحات التي يكتنفها الغموض إن لم نقل الصفقات، لكنّني فوجئت بأن البيان الوزاري يتبنّى حلول باسيل.

راجع خطاب النائب أنور الخليل في جلسة الثقة («النهار» 13-2-2020) ومع ذلك فالأوان لم يفُت إطلاقاً، وفي هذا الصدد فإنني أوصي رئيس الحكومة بأن يهمل ما جاء في البيان الوزاري من تبنٍّ لاقتراحات باسيل وأن يعتمد خطط بديلة أكثر نجاعة وأقل كلفة. وهي تبدأ بإنشاء الهيئة الناظمة للكهرباء بأول جلسة مجلس الوزراء وتعيين مجلس إدارة جديد لمؤسسة كهرباء لبنان إضافةً إلى تبني إقتراح الرئيس نبيه بري باعتماد ما يُطبّق في كهرباء زحلة حيث القطاع الخاص يعمل على ادارة قطاع الكهرباء بأفضل الأساليب إضافة إلى دعوة جديدة إلى «سيمنس» الألمانية لعقد لقاء عمل في بيروت اليوم قبل الغد وإعادة إحياء الاقتراح الذي سبق واقترحته «سيمنس» منذ عامين.

وفي هذا الصدد، فالناس لا تزال تتداول الذي جرى مع «سيمنس» منذ سنتين. عضو في الوفد الألماني الذي حضر اجتماع «سيمنس» مع وزير الطاقة بالإنابة آنذاك سيزار أبي خليل، أكّد لي أن أبي خليل لم يكترث إطلاقاً لمفاوضة «سيمنس» التي بنت معامل كهرباء في مصر بقوة 14000 ميغاواط بتكلفة لم ترهق ميزانية مصر.

قال لي العضو أن رئيس «سيمنس» أبلغه بعد الاجتماع أنه لم يشهد وزيراً غير مبال كما هو الحال مع أبي خليل. ولا أزال أحتفظ بتصريح للنائب ياسين جابر في موضوع «سيمنس» قائلاً: «كان الأجدى تشكيل وفد للتفاوض مع سيمنس بدل شراء عتمة بملياري دولار... القضية لم تعد قضية وزير بل هي مصيبة وطنية علينا جميعاً التصدي لها، (»النهار«24-9-2018).

إما إن يجد رئيس الحكومة حلاً عادلاً لمشكلة الكهرباء، والتي أضحت كما أسلفنا بأهمية الحصول على الاستقلال، وإما الإستقالة، وفي الحالتين سيكون التاريخ شاهداً له ولن يكون شاهداً عليه!! ولا أبالغ بالاستقالة لأن الناس سوف تذكره بالخير. على دياب أن يفرض الحل المناسب والأقل كلفة.

وعلى سيرة الاستقالة فلا تزال الذاكرة السياسية تحتفظ بثلاثة وزراء حين تركوا الحكم مختارين وقدّموا استقالتهم احتجاجاً على تعارض أفكارهم وطموحاتهم مع نهج الحكم الذي كان سائداً آنذاك، أعني الراحل الكبير غسان تويني ورفيقاه إميل بيطار وهنري إدِّه. كان ذلك في عهد الرئيس الراحل سليمان فرنجية وضمن حكومة سمّيت بحكومة الشباب برئاسة الرئيس صائب سلام عام 1970.

لم يستطع الوزراء الثلاثة التكيف مع نهج فرنجية وسلام. وفي هذا الصدد، يكفي الاستشهاد بما ذكره الصحافي جهاد الخازن نقلاً عن صاحب «النهار» غسان تويني، أحد الذين ساهموا في وصول فرنجية إلى الحكم: «قال لي غسان: غلطنا. سليمان فرنجية لا يُصلح حتى أن يكون مختاراً في ضيعة» («آخر أمراء الصحافة اللبنانية»، «الحياة» 9/06/2012).

جئتُ في البداية على ذكر الشقاء المتوقّع الذي سيواجه الرئيس دياب، وهو شقاء... الطموح. طموح تخفيف آلام اللبنانيين والذي لن يخف إلا بحل جذري وغير مكلف لأزمة الكهرباء بغضون الأشهر الثلاثة المقبلة. يحلو لي على سيرة الشقاء أن استشهد بما كتبه عميد الأدب العربي طه حسين والذي تقلّد منصب وزارة المعارف في خمسينيات القرن الماضي. قال: «وما لي لا أنسى الوزارة وقد لاقيت فيها عناءً وشقاءً وما رضيت فيها عن نفسي قط. وإنني لأشقى حين أرضى عن نفسي، فيما يرضى عن نفسه إلا رجل قد فرغ من الحياة أو فرغت منه» (طه حسين / من كتاب رسائل طه حسين - ابراهيم عبدالعزيز، القاهرة 1995).
ويقيني أن الرئيس دياب، الذي أتمنى له كل التوفيق - كطه حسين، لن... يرضى عن نفسه!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي