No Script

ستيفن هوكينج... عنفوان دماغ لا سويّ

No Image
تصغير
تكبير

بثّت وسائل الإعلام المقروءة و المسموعة و المرئيّة، نبأ وفاة عالم الفيزياء والفلك البريطاني ستيفن ويليام هوكينج عن عمر يناهز 76 عاما. كما تداولت شبكات التواصل الاجتماعي صوره و أقواله على نحو مكثّف، لتجعل من يوم 14 مارس حدثا مميّزا في تاريخ الإنسانية. هو كذلك لأن هوكينج يثير إعجاب النّاس وإجلالهم لما حقّقه في مجال المعرفة، حيث أضاف فيها ثلاثة إسهامات علميّة خالدة. تتمثّل هذه الإسهامات: أولا، في معالجته لتصوّر «التفرّد» الذي تناوله في رسالة في الدكتوراه، فشرحه و أضاف إليه مفاهيم جديدة و دقيقة. ثمّ برهن نظريّا، في مرحلة ثانية- خلافا لما كان متداولا- أنّ الثقوب السوداء تصدر إشعاعا حراريّا سمّاه «إشعاع هوكينج» وكان ذلك عمله الفلكي الأهم الذي تجاوز فيه أينشتاين. لكن هوكينج لم يخالفه كليّا، حيث أكّد في إسهامه المعرفي الأخير أنّ الكون حادث بمعنى له بداية زمنيّة، فأبدع في شرح نظريّة «الانفجار العظيم». و عمّق تصوّراتنا لفيزياء الكون ولمّا كانت الأفكار العظيمة تخلّد أصحابها و تجعلهم محلّ فضول و تقدير، فإنّ الانشغال بشخص هوكينج يبدو مضاعفا هذه المرّة.
أصيب العالم وهو في الحادية و العشرين من عمره بمرض «التصلب الجانبي الضموري»، فتوقع الأطباء حينها أنّه لن يعيش أكثر من سنتين لكنّه قاوم مرضه الذي شلّ حركته بشكل شبه كلّي و صار غير قادر على الكلام نهائيا سنة 1985. في المقابل ترادفت إبداعاته مؤكّدة أنّ قوة إرادته تجاوزت صعوباته الصحيّة، حتّى أنّ مؤلّفه الشهير «تاريخ موجز للزمن» ترجم لأكثر من أربعين لغة و حظي صاحبه باللقب العلمي نفسه الذي تحصل عليه نيوتن سابقا.
 وكان هوكينج إضافة إلى كل ذلك، معبّرا عن مواقفه السياسية و فاعلا في المجالات الاجتماعية و الخيرية و الإنسانية... ممّا يجعلنا نراجع معتقداتنا حول المرض والألم و المعاناة مستحضرين ما قاله الطبيب التونسي سليّم عمّار في كتابه الشعري «قصيدة الجنون» (1993):
 ليكن لفظ اللاعادي مفهوما متداولا
ليكن المرضيُّ مفهوما أكثر نسبية
ونتذكّر أيضا فيلم «رائعة تاريخ الزمان» الذي أخرج فيه جامس مارش حياة هوكينج على نحو طريف، فكشف فيه عن مواهب العبقري في فترة الشباب وسرد وقائع عن علاقاته العاطفية والعائلية والاجتماعية وبيّن بدايات صراعه مع الإعاقة.
يعتبر التصلب الجانبي الضموري اضطرابا مزمنا و مضرّا بالوظيفة الحركيّة ويصيب في الغالب جزءا من الجسد أكثر من الجزء الآخر، فتخمل بسببه العضلات مّا يعيق حركة الأطراف الإرادية ويكون هذا الخلل مرتبطا بضمور الأعصاب الحركية وتلف الخلايا في الجهاز العصبي المركزي. كما قد يؤثر ذلك على مركز الكلام في المخ مثلما وقع مع ستيفن هوكينج، الذي تغلب عن هذه الإعاقة باستعمال نظام حاسوب يتحكم فيه بالنظر و عن طريق جهاز تصنيع صوتي يجعل إشاراته رموزا، ثمّ يحوّلها إلى كلمات صوتية. وقد تمّ استخراج حروف هوكينج نفسها من صوته الموجود سابقا على الهاتف ووقع تسجيلها في قاعدة البيانات لأنه أراد الحفاظ على لهجته.
 هذا ما يفسّر بلا أدنى شك إعجاب العبقري بالآلات و ثقته في ما تقدّمه علوم الذكاء الاصطناعي من مستجدّات رغم أنّها قد تتغلب على البشر مستقبلا.
لقد أبدى هوكينج توجّسه و حذره من ذلك قائلا: «تبدو الأشكال الأولى للذكاء الاصطناعي التي نمتلكها الآن ناجعة جدّا. لكن أعتقد أنّ تطورها النهائي سيضع حدّا للنوع الإنساني». أمّا نحن، فتجعلنا ذاته العارفة أكثر ثقة في ممكنات البشر الذهنية... أوليس إبداعه خير دليل على ذلك؟ إنّ ما يثير الفضول المشوب بالإعجاب في هذا السياق هو قدرة الفيزيائي على التفكير العميق مع وجود وظائف دماغية و عصبية غير سويّة أي غير طبيعية ولا متناسقة فيزيولوجيا مع بقية الأعضاء. ألا يبدو الوعي أعظم من مجرد تناسق مادي؟ يبدو أنّ حياة هوكينج لن توجّهنا نحو التفكير في جدوى الآلات فقط، بل إنّها ستجعلنا نصوّب اهتمامنا نحو إشكالية الوعي البشري من جديد لذلك سيكون من أولى الرهانات المعرفية الآن هو التفكير في تعريف الذكاء الحيوي وعلاقته بالمادّة العصبية.

* باحثة أكايمية من تونس

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي