No Script

مثقفون بلا حدود

الكويت في قلب شاعر (4)

No Image
تصغير
تكبير

دخل أخي فتحي إلى صالة الاستقبال في البيت وأنا أرمقه بطرف عيني وقد تناوشته الأيادي، وتلقفته الألسن، واعتصرته العيون، وبحكم وظيفته في المباحث الجنائية فهو يتمتع بجلد على المواقف العائلية، ويعرف ماذا سيقول وكيف سيقول ومتى سوف يقول...
لم يمكث كثيرا... عاد إليّ قائلا: يقول أبي إنك لم تضع اللقمة في فمك منذ الصباح... تعال معي إلى الداخل لنأكل مع بعض... وإذا بي أضغط على كتفيه بيديّ صارخا في وجهه: ليس قبل أن أعرف ماذا حلّ في بلدي... هل هي طعنة بيت؟ أم هو رمح جساس؟ أم هي حرب خسرناها؟
إنما هو رمح سافل تجاوز حدوده، ونقض عهوده، واستباح حرماتنا، فلم يجرؤ على مواجهتنا، ولكن هيهات له أن ينال منا... هيهات.

«يا حاشـرا لجيوش الغـدر تدفعها
نحو الكويت لقد ضلت مساعيها
إن الكويت معان لست تفهما
إن الكويت بحور لن تجاريها
لا تحسب الدار بنيانا فتهدمه
أو خزنة من نضار أنت سابيها
فالدار في ملة الأحرار عاطفة
قدسية أنت لا تدري معانيها
يا غازيا بلد «الهولو» لقد جمحت
بك الظنون إلى أقصى أقاصيها
 وسوف تعلم أن الظلم مركبة
صعب وأنت الأسى يحيي مآسيها
إن شاء ربي أعاد الكون دورته
وعدت مثل سراب في فيافيها
وعدت مثل قتاد سوف تطمسه
ريح الكويت إذا هاجت سوافيها
وعدت مثل جفاء سوف يدفعه
موج الكويت بعيدا عن شواطيها
وكل دمعة طفل سوف تدمعه
عين الطغاة ولو جفت مآقيها
يا أنت يا قاذفا أرض العراق إلى
قعر الجحيم، لقد دمرت ماضيها
يا من جعلت سما بغداد خائفة
من الغيوم وقد جفت مراعيها
يا من تصورت صبر الناس مسكنة
غدا تريك الليالي بعض ما فيها
إن شاء ربي أعاد الكون سيرته
وفيك تختتم الدنيا مآسيها»

(شعر عبد الله العتيبي شاعر الوطن والوطنية).
نعم يا طائر البشرى لن ينال منا ورب الكعبة... أبي متشنج الجلد واليد فاغرا فاه لا يعلم مصير أبنائه، أمي خائفة ناهدة، لم تقوَ ركبتاها على حملها.. نجتمع تارة، نفترق تارة، وتارة أخرى ننفرد بأنفسنا.
انتصف الليل، رصاص يتراشق فوق بيتنا، يخترق أوراق الأشجار، تفجيرات متقطعة، دويّ يزحف إلينا زحف الأفاعي الخبيثة الماكرة، نوايا مبيتة في بيوت الجيران، في الربع الأخير من ليلة الجمعة، تحلقنا حول بعض في صالة الاستقبال، أسئلة يتيمة، إجابات عقيمة، ضرب مفزع في الباب الرئيس للبيت، سـُحبت أرواحـُنا، تهاوت ركبـُنا، تجلد بعضنا، قمنا لنتمترس.
أمي: ... لا تفتحوا الباب... خذوا حذركم..
أبي يخرج من غرفته: انتظروا... انتظروا... انتظروا...
فرحتي بنطق أمي أنستني خوف خبر الطارق... إنه أخي خليل المجند... ممزق الثياب، إصابات طفيفة على سطح جلده، مغبرّ الوجه، تساقطت عليه الأفواه بالقبل المخنوقة، الكل يتحسسه برفق ويأس، ها هي بعض الأنفاس تحيي الأمل في نفس أمي، وحزن عينيها يقول لها ما زال هناك ابنك ناجي وابنك عماد، أسئلة كثيرة تلتف حولها... تشلّ تفكيرها... تحوّل أنظارها... تمارس هوايتها في غفلة من الزمن... تريق دمها وتهدر دموعها وتشعل الفتن... ها هي تقف وسط الطريق بين الأمل، أمل وصول ولديها وبين الآهات المحمومة، تلفها صور من الذكريات، مصحوبة بأشباح ورسومات، هنا ارتفعت هي وأولادها، هنا نزلت، هنا جلست وهنا أكلت، هنا ضحكت وضحكنا معها، هنا تنازعنا وتداعبنا ومرحنا، لماذا في غيابة الجب نرمى ؟ لماذا في مفترق الطريق نترك؟ لماذا وقد كنا نحلم ونحلم، لماذا نحرم؟ لماذ... ؟ لماذا...؟

* كاتب وباحث لغوي كويتي
- المصدر: رواية ( الكويت في قلب شاعر- 2 /8 /1990حتى 26/2/1991 )
fahd61rashed@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي