No Script

بهجته النفسية تنبع من فكرة تغيير الأحوال إلى الأفضل مقارنة بما كانت عليه في ما مضى

العيد... تجديد

تصغير
تكبير

من أروع ما قيل شِعرا تعبيراً عن مشاعر تعتمل في النفس مع مجيء العيد ما نَظَمه شاعر العصر العبّاسي أبو الطيّب المتنبي في قصيدته الشهيرة التي قال في مطلعها:

عيدٌ! بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟...
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ؟
أمّــا الأحِـبّةُ فالــبَيْداءُ دونَهُمُ...
فَـلَـيـتَ دونَـكَ بِيـداً دونَـهَا بِـيـدُ

ففي البيت الأول، يخاطب المتنبي العيد سائلا إياه عما إذا كان قد جاء حاملاً أي «تجديد» (بمعنى: تغيير إلى الأفضل) مقارنة بما مضى من أحوال حياته. ثم أن الشاعر يوضح جانبا من أحواله تلك في البيت الثاني مشتكيا من أن العيد قد جاء والبيداء (الصحراء) تفصل بينه وبين أحبته، ولهذا فإنه يتمنى أن يكون بينه وبين العيد بِيـداً (صحارى) كالتي تفصل بينه وبين أحبائه. وفي ذلك إشارة بلاغية إلى أن ذلك التباعُد عن الأحِبّةُ قد نزع من النفس ابتهاجها بالعيد.
وتحديدا، فإن كلمة «عيد» التي في بداية البيت الأول وكلمة «تجديد» التي في نهايته ستكونان معا محورا ومنطلقاً لحلقتنا اليوم التي نحتفل معكم من خلالها بإقبال عيد الفطر السعيد، وذلك من زاوية كون فكرة «التجديد» - بمعنى التغيير إلى الأفضل وبمفهومها الإيجابي - تقترن عادة بجلب الابتهاج والسرور والتفاؤل والانفتاح على الحياة، وهي أمور تساعد مجتمعة على تعزيز العافية النفسية والوجدانية التي تُسهم بدورها في تحسين الأجواء الاجتماعية ككل.
فمن هذا المنظور الإيجابي الشامل، ليس من المبالغة القول إنه «ليس هناك معنى للعيد إذا لم يكن مصحوبا بتجديد». فالتجديد يحرُّك في النفس مفاعيل عدة، نذكر من بينها: الابتهاج، والتفاؤل بمستقبل أكثر اشراقا، وتنقية النفس من شوائبها، وفتح صفحة جديدة في العلاقات، وإعادة ترتيب الأولويات الحياتية على نحو أفضل.
وإذ نستعد حالياً لاستقبال أجواء ونسمات عيد الفطر السعيد، فإننا نسلط الضوء في التالي على عدد من أهم جوانب ومعاني «التجديد» التي ينبغي أن نطبّقها لنفوز بالبهجة في عيدنا الراهن وفي سائر أعيادنا، وذلك في محاولة لنُعيد صياغة البيت الأول من قصيدة المتنبي ليصبح على النحو التالي:

عيدٌ! بِخَيرِ حالٍ قد عُدتَ يا عيدُ...
دعْ ما مَضى وانقضى، ففيكَ تَجديدُ

التجديد... سُنَّة الحياة

إذا تأملنا الحياة عموما من أصغر تفاصيلها إلى أكبرها، فسنلاحظ أن هناك سُنّة ثابتة تحكمها، وهي السُّنة التي تتمثل في أن التجديد (بأنواعه الموضحة في الكادر المرفق المعنون: «نظرة تحليلية») هو بمثابة محركها الذي لا يمكن أن تستمر من دونه، بمعنى أنه إذا توقف سريان التجديد فإن تلك تكون بداية الانهيار والاندثار سواء على مستوى الخلايا البيولوجية الحيّة أو على مستوى الأفكار والثقافات والحضارات.
وينطبق هذا المبدأ على أجسامنا. فمن الثابت أن كل نوع من خلايا أجسامنا يتجدّد تدريجيا بوتيرة معينة، بما في ذلك خلايا الجلد والدم والكبد والعظام وغيرها. ويتفق علماء الأحياء على أنه لولا ذلك التجديد المستمر لشاخت أجسامنا في غضون أشهر قليلة فقط بعد مولدنا.
الجديدان... المتعاقبان

تعاقُب النهار والليل يُعتبر من السُنن الكونية المندرجة في إطار مبدأ التجديد التعاقُبي المستمر الذي يضمن عدم تسلل مشاعر السأم إلى النفس. فلو أن النهار بقي على مدار الساعة لانتاب الناس الضجر والملل، ولكنها تغرب ثم تشرق بعد فترة من الظلام وهكذا دواليك.
ولهذا فإن العرب العاربة أطلقت منذ القِدم على النهار والليل معا لقباً جمع بينهما ألا وهو «الجديدان»، وذلك في إشارة إلى أن تعاقبهما هو أحد أشكال التجديد حتى وإن كان كل واحد منهما يتكرر كما هو دون تغيير في حد ذاته.
وهكذا فإنه يمكن القول إن التجديد بهذا المفهوم الواسع هو قانون الحياة الثابت، بل إن استمرار التجديد هو الضمانة لاستمرارية الحياة ذاتها.
ومن هذا المنظور، نستعرض في ما يلي عددا من جوانب ومعاني التجديد المرتبطة بالعيد وتُسهم في إحياء العافية الروحانية وتشجع النفس على مواصلة السير على طريق الخير والإيمان.
العيد... والثياب الجديدة

لأن الجديد له بهجته، فإن هناك سُنّة نبوية ترشد المسلمين إلى ارتداء إما ملابس جديدة واما أفضل ما لدى المرء من ثياب في كل عيد من العيدين (الفطر والأضحى) وكذلك في العيد الأسبوعي عند المسلمين ألا وهو صلاة الجمعة.
وفي هذا حكمة عظيمة تنبع من أنه من شأن فرحة الثياب الجديدة أن تعزز وتتكامل مع الفرحة النابعة من العبادة التي تسبق العيد، وهي الفرحة التي تمتلئ بها نفس المؤمن بعد أن يكون قد أدى فريضة أو مناسك دينية ويأمل أن يكافئه خالقه عليها.
وإلى جانب الثياب الجديدة، يوصي أهل الفقه بأن يحرص المسلمون في عيدهم على «التجديد» في الأمور الأخرى قدر استطاعتهم بما في ذلك الأثاثات المنزلية والمتعلقات الشخصية وحتى في أصناف المأكولات والمشروبات، إذ ان من شأن هذا كله أن يسهم مجتمعا في أن يضاعف فرحة العيد وأن يبث في النفس ابتهاجا ينعكس إيجابيا على العلاقات الاجتماعية.
تجديد الذكرى

يرتبط العيد أيضا بتجديد الذكرى الدينية المرتبطة به، وهو التجديد الذي يعني أن إحياء تلك الذكرى بأن يستعيد المؤمن المعاني الروحية ذات الصلة بذلك العيد.
ففي عيد الفطر الذي نحن حاليا بصدد الاحتفال به، لتجديد إحياء الذكرى جوانب عدة من بينها أن الله ورسوله قد بشرا من يتمون صيام شهر رمضان بأجر عظيم وبمغفرة واسعة وبالجنة في الآخرة. ومن الجوانب الأخرى أن المؤمن يقوم بتذكير نفسه مجددا بأن الامتثال لله في الفرائض التي فرضها هو أمر له لذته الإيمانية.

تجديد الإيمان

ومن أشكال التجديد في العيد أن يجدد المرءعلاقته الإيمانية بربه، وذلك بمعنى أن تكون له مع نفسه وقفة داخلية يجرد من خلالها أحواله مع ربه خلال الفترة الماضية، ويجدد العهد بينه وبين ربه بأن يسعى إلى إصلاح الجوانب السلبية وأن يرجع إلى الطريق المستقيم في عباداته كما في معاملاته الاجتماعية.
ومن شأن هذا النوع من التجديد أن يعيد إلى نفس المرء توازنها وطمأنينتها داخليا، إلى جانب انسجامها مع الآخرين في التعاملات اليومية.
تجديد العلاقات الشخصية

وفي العيد فرصة عظيمة أيضا لشكل اجتماعي من أشكال التجديد، ألا وهو تجديد واصلاح وترميم العلاقات الشخصية، وذلك من خلال السعي إلى اسقاط الخصومات مع الآخرين، والتغاضي عن الخلافات معهم وإعلان التسامح إزاء أخطائهم، والسعي إلى فتح صفحة جديدة ناصعة في العلاقات معهم.
فالزيارات المتبادلة تسهم في إذابة وتبديد الشحناء والضغائن التي ربما تكون قد تراكمت في الأنفس على مدار الأشهر التي تسبق العيد. والدليل العملي الحياتي الذي يثبت ذلك هو أنه إذا كان بينك وبين شخص خصومة أو ضغينة ثم وجدته ذات يوم واقفا على بابك كي يزورك فإنك ستجد أن مشاعر الضغينة قد تبددت من صدرك وسترحب به ترحيبا حارا وكأنما لم تكن بينكما أي شحناء. فما بالك إذا كانت زيارة ذلك الشخص لك في يوم عيد؟

تجديد النظرة الحياتية

 في ضوء ما يرتبط بالعيد من «التجديدات» التي أوضحناها آنفا، تصبح نفسية المرء مؤهلة كي يقوم بتجديد نظرته إلى حياته ككل، بمعنى أن يقوم بمراجعة وإعادة تقييم نظرته إلى حاضره ومن ثم تجديد نظرته إلى مستقبله.
بتعبير آخر، ينبغي أن يكون العيد فرصة كي يعيد المرء ترتيب أمور حياته وبالتالي إعادة رسم خارطة أولوياته على كافة المستويات، سواء على المستوى الديني (علاقته مع خالقه) أو على مستوى علاقاته الشخصية والاجتماعية والمهنية.

نظرة تحليلية

مفهوم «التجديد» هو مصطلح شامل تندرج تحته تنويعات فرعية عدة، نذكر من بينها التالي:
• الابتكار: أي استحداث شيء لم يكن له وجود من قبل.
• التغيير: أي إحداث تحسينات في تفاصيل شيء موجود أساسا.
• الاستبدال: أي الاستعاضة عن شيء بشيء آخر تماما.
• إعادة الترتيب: أي إعادة تنسيق أشياء موجودة، بحيث تصبح في شكل أو نسق مختلف يؤدي الوظيفة على نحو أكثر كفاءة.
• التحديث: أي إضفاء تصورات أو أبعاد أو خصائص جديدة على الشيء ذاته بحيث يأخذ طابعا أكثر توكيدا.
• التطوير: أي إدخال مزايا جيدة على الشيء بحيث تنقله من طور إلى طور أعلى في الاتجاه ذاته.
• التعديل: أي التخلص من بعض سلبيات الشيء وإحلال إيجابيات مكانها.
• التعاقُب: أي أن يتناوب شيئان أو أكثر الظهور منعا للرتابة والنمطية (كتعاقب النهار والليل مثلا).
• التنويع: أي مراعاة إدراج أصناف أو أنواع أو ألوان أو أشكال أو مذاقات مختلفة (كالتنويع في الأطعمة على مدار العام مثلا).
• إحياء الذكرى: أي الاحتفال سنوياً بذكرى حدث معين لتجديد معانيه في النفس واستلهام عظات ودروس منه.

قالوا عن التجديد والتغيير والابتكار

• «نحن لا نموت حين تفارقنا الروح وحسب، بل قد نموت قبل ذلك حين تتشابه أيامنا، ونتوقف عن التغيير، حين لا يزداد شيء في حياتنا سوى أعمارنا وأوزاننا» (الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ).
• «إن أول طريق التجديد هو أن نقتل القديم بحثاً» (الأديب واللغوي المصري أمين الخولي). • «إذا كنت ما زلت تؤدي عملك بالأسلوب القديم ذاته الذي بدأته به منذ سنوات، فاعلم أنك لم تعد تصلح لهذا العمل. فابحث لنفسك عن عمل آخر في أقرب فرصة» (الكاتب الأميركي الساخر مارك توين)
 • «اسمح للرياح الآتية من خارجك بأن تغيّرك إلى الأفضل، ولكن لا تسمح لها بأن تقتلعك من جذورك» (المهاتما غاندي).
• التغيير هو وحده الأمر الأبدي الدائم. (الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور).
• «التغيير صعب في بداياته، وفوضوي في منتصفه، ورائع في نهايته». (خبير التنمية الذاتية الكندي روبين شارما).
• «الغباء الإنساني يكمن في الخوفِ من التغيير». (الفيلسوف الأماني فريدريك نيتشه).
• «التغيير مثل الشفاء، يستغرق وقتا». (الروائية الأميركية فيرونيكا روث).
• «إذا وقعت في أخطاء كثيرة أثناء محاولة التجديد، فمن الأفضل الاعتراف بالخطأ والبحث عن مسار آخر». (المخترع وقطب الأعمال الأميركي ستيف جوبز)
• «لكي تخترع، أنت لست بحاجة سوى إلى مخيلة خصبة وكومة من الخردة». (المخترع الأميركي توماس اديسون).
• «استوعب كل ما هو متاح من معارف، لكن احرص على أن تضيف إلى شخصيتك أشياء جديدة فريدة من اختراعك أنت». (الممثل الأميركي بروس لي).
• إذا انفتح عقل الإنسان على فكرة جديدة، فلن يعود أبداً الى آفاقه القديمة. (الأديب والطبيب الأميركي أوليفر ويندل هولمز).
• «رحلة الاستكشاف الحقيقية لا تستلزم السفر إلى أراض جديدة بالضرورة، بل تستلزم رؤية الأمور بعقلية جديدة». (الروائي  الفرنسي مارسيل بروست)

• «كلما سمعت المثل القائل: الحاجة أم الاختراع، فإنني أتساءل: أليس عجيبا أننا كعرب لا نحتاج الشيء إلا بعد أن يخترعه الأعاجم؟» (محرر ملف «نبص العافية» في جريدة «الراي»)

ومن الأقوال التي تندرج في الاتجاه ذاته لكن قائليها غير معروفين:
• تتجدد نظرتك إلى الحياة عندما تجدد أفكارك.
• تتكاثر الطفيليات في الماء الراكد فتفسده. فاحرص على تجديد مياه نهر حياتك بحركة التحديد والتغيير.
• لا تأخذ المعارف كقالب جامد، بل عليك أن تضيف اليها لمسة جديدة خاصة بك.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي