No Script

أصبوحة

ستعود روائح الأرصفة

تصغير
تكبير

هل نتذكر الشوارع والأرصفة التي مررنا بها ومشينا عليها في العواصم العربية؟ أم مرقت في الذاكرة واختفت في متاحفها، أماكن تثير الذكريات وتستدعي الغياب الذي أفل لكنه لم ينته، بل ظل مركوناً في زاوية معتمة من زوايا الذاكرة.
كل الشوارع نتذكرها بروائحها، خليط من روائح خضار الرصيف وفواكهه، وروائح العطارين ولحوم الجزارين وجلود الأحذية المكدسة بانتظام في محل الاسكافي، وروائح الشاي والقهوة والأرجيلة المنبعثة من المقاهي، مصحوبة بصخب الرواد وصياح البائعين.
تلك الأشياء وحدها تعلق بالذاكرة البعيدة في العواصم العربية، فقد تختفي المناظر وتتغير، لكن الرائحة لا تتغير، وتظل الوجوه نفسها لكن النفوس تضطرب وتزداد سخطاً، فقد نظن أن كل شيء سيبقى على حاله في بيروت وبغداد، لكن لا شيء يبقى على حاله.


فالأقدام والأرجل تراصفت والكعاب دقت على الأرصفة، الحناجر ارتفعت والغضب وصل المدى الأخير والقبضات تلوح في الهواء، صانعة إعصاراً بشرياً جارفاً، للهراوات والبنادق والآلات العسكرية، ولا يتوقف صباحاً أو مساء، وروائح الرصيف تحولت إلى رائحة الدخان.
وفجأة تتخضب الأرصفة المألوفة بالدماء، وتسقط الأعمار صغيرها وكبيرها، برصاص الفساد أو بهراوة ميليشيات الأحزاب الطائفية، بمحاولة لإيقاف الإعصار المخيف، الذي يرعد الفاسدين المطمئنين الواثقين، من صمت وخوف ورضوخ القطيع.
فلا الهراوات كسرت العزم، ولا الرصاص والدماء والشهداء، والسلطات تعيش حالة إنكار مرضية، غداً يهدؤون غداً يملون غداً يتعبون، لكن الأرصفة لا تهدأ ولا تمل ولا تتعب، فوقود الكرامة والغضب يزودها بالإصرار.
قالوا كل شيء لتشويه الأرصفة المكتظة، قالوا عملاء وقالوا سفارات وقالوا غوغاء ومخربين، بيد أن عمالتهم للوطن ولترابه وبحره، الذي عاشوا فيه طفولتهم وشبابهم، وماتوا ودفنوا في قلبه وأحشائه، هم سفراء الحب والكرامة والعزة، ينهضون في وجه الريح، ويفتحون أذرعهم للرصاص والنار، ويحضنون الأرض والأشجار.
فمتى توقظ الدماء من في السدة، ومتى يصدق الفاسدون أنهم فاسدون، لن يسمعوا بالروح بالدم مرة أخرى، وأن وقت الحساب قد حان، وأن لا شيء يبقى على حاله، وأن الأرصفة وروائح الباعة ونداءاتهم ستعود مع ابتسامة على الثغور.

osbohatw@gmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي