No Script

رأي قلمي

عقيمٌ أجدب...!

تصغير
تكبير

بسبب نوعية تركيبنا العقلي وبسبب تنوع خلفياتنا الثقافية، لا يمكن لنا أن نتفق في كل شيء، بالإضافة إلى طبيعة القضايا التي نفكر فيها والأدوات التي نستخدمها، وكلنا يعلم بأن في عقولنا ونفوسنا صوراً متنوعة كصور وجوه البشر، فالملامح العامة للوجوه موحّدة، وهذا هو الإطار الجامع للفكر الإنساني بكل ما فيه من تناقضات.
حين نتحدث عن الاختلاف الفكري والفقهي، فإننا نعني أمرين جوهريين: تشخيص أسباب الاختلاف ثم ما هو مطلوب للتعامل مع ذلك الاختلاف؟ ومن أسباب الاختلاف الفكري والفقهي بين الناس الخلط بين الأشخاص والأفكار، يقول الله تعالى: «وَلَا يَجْرِ مَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى?? أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?» أي لا يحملنكم بغضكم لقوم على عدم العدل معهم، وذلك يكون بإصدار الأحكام الجائرة ضدهم وبخسِهم أفكارهم وأشياءهم، وهنا القرآن الكريم يؤسس للفصل بين العواطف والأحكام المتعلقة بالأشخاص.
لا بد أن تظل الأفكار والآراء متمتعة بقدر جيد من الاستقلال عن أصحابها، قد ينتج الشخص الممتاز فكرة سيئة أو مدمرة، وقد يصدر عن شخص سيئ رأي حكيم ومفيد، وعندما نبقي الأفكار معزولة عن أصحابها فنحن ننزع عنها الهالة غير الموضوعية، ويسهل نقاشها ونقدها وتطويرها والخلاص منها والتوافق عليها، كما يجعل الاستفادة منها متاحة، لكن حين نقدس الفكرة بسبب تقوى أصحابها أو بسبب دفاعهم عنها حتى الاستشهاد في سبيلها، أو بسبب إنجازاتهم العظيمة في أي مجال من المجالات، فنحن هنا نحنط الفكرة ونتمسك بها من غير سبب موضوعي، وهنا توسع شقة الخلاف بين المتحررين فكرياً وبين من يعظّم الفكرة بسبب ما يراه من عظمة صاحبها، ومنهم من يستبعد الأفكار بسبب الآراء السلبية في أصحابها. شخصنة الأفكار تخرجها عن سياقها الصحيح، ويجعل التوافق والاتفاق عليها غير ممكن، ويكون نقاشهاً خارجاً عن السياق المنطقي وآداب وقواعد الحوار الصحيح.
الرسل الكرام - عليهم السلام - هم أئمة المصلحين، وأكثرهم وأدومهم تأثيراً في الناس، ويحملون من العلم والبرهان والبينات، ما يعمل في الناس مثل الذي يعمله حجر كبير يلقى به في بركة صغيرة، فهم لا يحاكمون الأشخاص ولا يتهمون أحداً منهم بالجهل والتقليد وانعدام التدبر والتفكر، بل يناقشون الأفكار التي في العقول ويصدرون عليها الأحكام إما لتقويمها واما لتغييرها ونسفها من جذورها. ولو نظرنا في كل النقاشات والحوارات ذات البعد الديني، وذات البعد الدنيوي أو الفلسفي... أو أو أو، لوجدنا الذي ترسخ منها وعاد بالفائدة على الناس، من كان أصحابها يناقش الأفكار ولا يشخصنها، أما من كان همه محاكمة الشخص على أفكاره وإصدار الأحكام من خلال سلوكه، فيعتقد أن أفكاره وآراؤه هي الأصوب والأنفع للعباد والبلاد فيكون الخلط بين الشخص وأفكاره هو سيد الموقف، وفي النهاية يكون النقاش والحوار عقيماً أجدب لا جدوى منه.

m.alwohib@gmail.com
‏mona_alwohaib@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي