No Script

«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا»... سلسلة مفتوحة تستكشف دهاليز الاعتلالات السيكولوجية والذهنية والسلوكية

سلوكيات اضطرابية... مؤذية جسدياً ومُحرِجة اجتماعياً!

تصغير
تكبير

يبدو المشهد مُستهجَناً ومثيراً للاشمئزاز ومُحرِجاً في آن واحد معا عندما تكون في مكان عام وتقع عيناك فجأة على شخص متأنق لكنه يُكرر بين الحين والآخر سلوكاً كقضم أظافر يديه والزوائد الجلدية المحيطة بها، أو نتف شعرات من رأسه أو وجهه أو رموشه، أو حتى ما هو أكثر تقزيزاً... كالنبش في فتحتي أنفه!
لكننا لا نتحدث هنا عن إتيان مثل تلك السلوكيات لمرة واحدة أو مرتين بشكل عارض أو لسبب طارئ، بل عن ممارستها على نحو متكرر يلامس حدود «الهَوَس» وإلى درجة تستثير مشاعر القرف لدى من يرونه.
ويوجد في مجال علم النفس ما يتناول تلك الممارسات التي يشار إليها مجتمعة بمصطلح «السلوكيات التكرارية المؤذية للجسد» (يُعرف اختصاراً في اللغة الانكليزية بـ«BFRB»)، وهو المصطلح الذي يعتبر بمثابة «مظلة» تجمع تحتها مجموعة من التصرفات التي تعكس اضطرابات نفسية تتجلى ظاهرياً في صورة تصرفات يركز كل واحد منها على جزء من البدن وقد يتسبب في إيذاء ذلك الجزء فضلاً عن جلب إحراج اجتماعي إلى الشخص المصاب بذلك السلوك المعبر عن اضطراب نفسي.


وفي حين ينبغي علينا هنا التوعية بأنه لا ينبغي السخرية من ممارسي مثل تلك السلوكيات أو تحقيرهم اجتماعياً، فإنه ينبغي علينا أيضاً في المقابل توعيتهم إلى ضرورة أن يسعوا في جميع الحالات إلى الحصول على معالجة نفسية على أيدي معالجين متخصصين كي يتمكنوا من التخلص من مسببات تلك السلوكيات.
وإلى تسليط مزيد من الأضواء على مختارات من بين أبرز تلك السلوكيات التكرارية المؤذية للجسد والمسببة للإحراج...

نظرة عامة

من المهم في البداية توضيح أن هناك إجماعاً واسع النطاق بين اختصاصيي علم النفس على أن الاضطرابات النفسية المسببة لظهور مجموعة «السلوكيات التكرارية المؤذية للجسد» (BFRB) لا تندرج في إطار اضطرابات «الوسواس القهري»، وبالتالي فإن معايير وأساليب التقييم والتشخيص والمعالجة تختلف.
وحتى الآن، ما زال مدى شيوع هذه السلوكيات غير مرصود احصائياً بشكل كاف على مستوى العالم. ويعود ذلك إلى أسباب عدة من بينها قصور التشخيص بسبب أن معظم المصابين بها لا يلجأون إلى طلب العلاج النفسي. لكن بعض التقديرات التقريبية تشير إلى أن ما بين 5 و 10 في المئة من سكان العالم يمارسون أحد أشكل تلك السلوكيات الاضطرابية ويحتاجون إلى مساعدة من جانب معالجين نفسيين متخصصين. وفي الولايات المتحدة وحدها، ترجح تقديرات أن هناك أكثر من 10 ملايين شخص مصابون بالاضطراب النفسي الذي يدفع صاحبه إلى ممارسة سلوك نتف شعر من جسمه بوتيرة خارجة عن سيطرته.
مسببات... محتملة

ما زال الغموض يكتنف المسببات التي تقف وراء «السلوكيات التكرارية المؤذية للجسد»، لكن أهل الاختصاص يرجحون أن هنالك مجموعة من العوامل والمتغيرات النفسية التي تسهم بتأثيرات تفاضلية تؤدي في النهاية إلى ظهور تلك السلوكيات لتعبر عن اضطراب داخلي معين.
وإلى جانب تلك العوامل والمتغيرات النفسية، يعكف باحثون حاليا على استقصاء احتمالات وجود مؤثرات وراثية تسهم بدور في تحريك تلك السلوكيات التي لوحظ أنها في معظم الحالات تبدأ بين مرحلة الطفولة وبدايات مرحلة المراهقة.
أبرز السلوكيات

هناك أنواع وأنماط كثيرة تندرج ضمن «السلوكيات التكرارية المؤذية للجسد»، لكن أبرزها وأكثرها شيوعاً على مستوى العالم تتمحور حول الأجزاء التالية في الجسم:

• أظافر اليدين
- قضم الأظافر
- محاولة نزع الأظافر كاملة

• الجلد
- كشط وقرص وإيذاء الجلد
- قضم وابتلاع الزوائد الجلدية

• الفم
- عض بطانة الخدين والشفتين
- عض اللسان
- الضغط والاحتكاك بين الأسنان العلوية والسفلية

• الأنف
- نبش فتحتي الأنف
    
• الشعر
- نتف الشعر من بصيلاته
- قضم الشعر وابتلاعه
- شد وتقطيع الشعر
- لفلفة الشعر حول الأصبع

• العينان
- هوس الرغبة في تنظيف العينين من افرازاتها المخاطية، ويعرف بمصطلح «متلازمة اصطياد الافرازات المخاطية».
وفي التالي نسلط أضواء تثقيفية وتوعوية على سلوك قضم الأظافر وسلوك نتف الشعر باعتبارهما الأكثر شيوعاً بين مجموعة «السلوكيات التكرارية المؤذية للجسد»...
أولا: قضم الأظافر

بشكل عام، تبدأ «معركة» القضم (onychophagia) بين الأظافر والأسنان في مرحلة الطفولة والمراهقة بدرجات متفاوتة من شحص إلى آخر، لكن كثيرون يقلعون عنها مع انتهاء مرحلة المراهقة وبدء مرحلة الشباب، بينما تبقى ملازمة لنسبة أقل في مراحل العمر اللاحقة. ويمكن القول استناداً إلى تقديرات علماء ومعالجين نفسيين حول العالم إن سلوك قضم الأظافر يمارسه حوالي 60 في المئة من الأطفال و45 في المئة من المراهقين و10 في المئة من البالغين.
ولسنوات طويلة، نظر اختصاصيو علم النفس إلى هوس قضم الأظافر باعتباره عادة عصبية ذات منشأ نفسي (وربما أيضاً وراثي) مثلها مثل عادة مص أصابع اليدين وغيرها من مجموعة السلوكيات التكرارية وهي المجموعة التي اتسعت بالتدريج لتشمل مجموعة السلوكيات الاضطرابية المتمركزة على الجسد التي هي موضوع حلقة اليوم.
وليس هنالك مشكلة تستدعي القلق إذا قمت بقضم أظافر يديك تحت ظرف طارئ كتعرضك لقلق أو توتر عابر أو بسبب حدوث تشققات مفاجئة في أطراف أظافرك. لكن الأمر يكون خطيراً عندما تكون تلك العادة ملازمة لك بشكل مستمر ولا تستطيع التوقف عنها.
لكن سلوك نتف الشعر ينتقل من مربع الاضطراب النفسي إلى مربع الإيذاء الجسدى عندما يبدأ الشخص المصاب به في قضم الأنسجة الجلدية واللحمية الحساسة المحيطة بأظافر يديه، فتكون نتيجة ذلك هي حدوث نزيف والتهابات مؤلمة.
وفي حالات كثيرة، يبدأ الأطفال بممارسة عادة قضم أظافرهم بإفراط عندما يواجهون مشاكل نفسية معينة وخصوصاً مشكلة التنمر من جانب أطفال آخرين سواء في المدرسة أو في أماكن اللعب. لذا، ينبغي على الوالدين وأولياء الأمور أن يبادروا إلى مناقشة الأمر بمجرد أن تظهر تلك العادة على الطفل، والعمل على تبديد مسبباتها من خلال التواصل مع المعنيين قي المدرسة ومن خلال استشارة معالج نفسي إذا اقتضى الأمر ذلك.
وقد لوحظ أن معظم الأطفال يتوقفون عن قضم أظافرهم بمجرد زوال الضغوط النفسية التي دفعتهم إلى ممارسة تلك العادة. لكن في موازاة ذلك من المهم جداً مساعدة الطفل كي يتخلص من تلك العادة عن طريق إحدى النصائح والإرشادات التي سنستعرضها في القسم التالي.
دراسات وأبحاث

ورجحت دراسات أميركية حديثة الاضطراب المتسبب في هوس قضم الأظافر إلى وجود مشكلات في الاتصال بين الجزء الأمامي من المخ (المسؤول عن الشعور بالخوف) وبين مراكز أكثر عمقاً في الدماغ، وتحديداً العقد العصبية القاعدية التي تتحكم في تنظيم أفكار وتصورات الشخص إزاء الأشياء.
وخلصت الباحثة النفسية الألمانية كيرستن فولف إلى استنتاج مفاده أن هوس قضم الأظافر هو من السلوكيات التي يلجأ إليها البعض للتنفيس عن التوتر العصبي. وصنفت فولف تلك العادة ضمن «السلوكيات التعويضية الانصرافية» التي يلجأ إليها بعض الناس عند اشتداد نوبات الغضب والتوتر والعجز عن التصرف، فيعوضون عما بداخلهم في شكل سلوكيات تكرارية تنعكس على أحد أجزاء الجسم.
لكن من المهم توضيح أن عادة قضم الأظافر لا تعكس اضطراباً خطيراً إلا عندما تكون مصدرا للإيذاء البدني الواضح والذي قد يصل إلى درجة التعمد من جانب الشخص المضطرب.
من جانبه، يرى عالم النفس الفرنسي لويي فيرار أن الذين يعانون من تدنّي احترام الذات – خصوصاً في مرحلة المراهقة – يلجأون إلى قضم الأظافر بشكل وحشي كنوع من التدمير الذاتي الرمزي، وذلك لأن الأظافر تشكل جزءاً ناتئا من الجسم ويمكن اقتطاعه وبصقه بسهولة، ولأن قضمها لا يؤلم مبدئياً. ويتوهم عقل المصاب أن القيام بقضم الأظافر يوفر تنفيساً عن معاناة تدني احترام الذات.
مشاكل... ومتاعب

في معظم الحالات، يتسبّب هوس قضم الأظافر في تعريض المصاب به إلى مشاكل ومتاعب عدة نذكر من بينها ما يلي:
• تتورم أطراف الأصابع وتصبح مؤلمة ومعرضة للنزف، ويصبح من الصعب على الشخص أن يتناول أو يمسك الأشياء بشكل طبيعي.
• عند بدء النزف من أطراف الأصابع نتيجة للافراط في القضم، يزداد خطر الإصابة بالالتهابات، بما في ذلك التهابات تجويف الفم واللثة.
• على المدى البعيد، تصاب الأظافر بتشوهات دائمة يصعب تعديلها، وقد تصاب أيضاً بخلل في نمط واتجاه نموها، لأن تلك العادة تثير استهجان واشمئزاز وربما سخرية المحيطين بالشخص، فإن ذلك يسبب له عواقب ذات تأثيرات نفسية سلبية بما في ذلك الانعزال الاجتماعي والاكتئاب وغير ذلك.
نصائح وإرشادات

في التالي نسرد عدداً من النصائح والإرشادات التي يمكن أن تساعد على التوقف عن قضم الأظافر، حيث يركز بعضها على ردع السلوك ذاته وبينما يركز بعضها الآخر على استعمال وسائل وقائية:
• المحافظة دائماً على الأظافر نظيفة ومشذبة تماما بحيث لا يكون فيها أي مجال يسمح لك بالقضم.
• استعمال طلاء مناسب مقو للأظافر. ويمكن حتى للرجال الذين يعانون من مشكلة قضم الأظافر أن يستعملوا طلاء مقو شفافاً ولا لون له.
• إذا كان القضم قد تسبب في تآكل قمم أظافرك، فيستحسن استعمال تركيبات أظافر اصطناعية موقتة لحماية النسيج الحيوي المحيط بأظافرك من التلوث. واظب على استخدام الأظافر الاصطناعية حتى تنمو أظافرك الأصلية مجدداً، ثم اعتن بها.
• بدلاً من التنفيس عن قلقك وتفريغ أفكارك السلبية في قضم أظافرك، حاول أن تستعين بأساليب عملية وترفيهية لتخفيف مشاعر التوتر والإجهاد النفسي.
• يمكنك طلاء أظافرك بمستحضر معين مر المذاق حتى تردع نفسك عن قضم أظافرك، ومثل هذه المستحضرات متاحة في الصيدليات ويمكن شراؤها من دون وصفة طبية، وهي شفافة وآمنة ولا تترك أثراً لكن مذاقها مر جداً إلى درجة تنفرك تدريجياً من مجرد تقريب أظافرك من فمك.
• يمكنك لف شرائط أو لاصقات طبية ملونة خاصة حول أظافرك لتكون بمثابة موانع واقية للحؤول بينك وبين قضم أظافرك.

ثانيا: نتف الشعر

«هَوَس نتف الشعر» أو الـ«تريكوتيلومينيا» (Trichotillomania) هو سلوك اضطرابي منشأه نفسي ويتمثل في دأب الشخص تكرارياً على اقتلاع شعر منطقة أو مناطق معينة من شعر جسمه. ويؤدي هذا الهوس إلى فقدان الشعر من أجزاء في الجسم على نحو قد يؤدي إلى تشوهها، خصوصاً إذا كان النتف يستهدف منطقة ظاهرة كشعر الحاجبين أو شعر الرأس.
ظهر مصطلح «هَوَس نتف الشعر» للمرة الأولى في العام 1887 في أحد مؤلفات طبيب أمراض جلدية فرنسي شهير يدعى أونري هالوب. وفي البداية كان ينظر إلى الأمر باعتباره مجرد عادة سيئة، لكن مع مرور السنوات أثبتت دراسات بحثية أن هذا السلوك يعكس حالة مرضية نابعة من اضطراب نفسي.
معدل انتشاره... مرضياً

حتى الآن، لا توجد احصائيات دقيقة ترصد معدلات الانتشار المرضي لهوس نتف الشعر. ويرجع ذلك إلى عوامل عدة من أهمها ميل الغالبية العظمى من المرضى إلى التكتم والسرية وعدم البوح بمشكلتهم، إلى جانب غياب الدراسات المسحية التي تجرى على أفراد المجتمع العاديين بعيداً عن عيادات الأمراض الجلدية أو عيادات الطب النفسي. لكن الأمر المعروف هو أن هذا السلوك الاضطرابي أكثر انتشاراً بين الإناث منه بين الذكور.
أنماطه

وفقا لتصنيفات علماء النفس، هناك 3 أشكال أساسية شائعة: النتف الاندفاعي، والنتف القهري، والنتف التلقائي.
فالشكل الاندفاعي يعني أن المريض يفعله تلبية لرغبة داخلية ملحة في النتف، ويكون النتف مصحوباً بشعور باللذة، لكن يتلوه عادة شعور بالندم بسبب الاستجابة لتلك الرغبة. وبالنسبة للنتف القهري فإنه يكون عندما يضطر المريض لممارسة النتف في محاولة للتخلص من شعورٍ داخلي متعاظمٍ بالضيق، ولا يكون السلوك هنا مصحوباً بلذةٍ معينة وإنما فقط بالرغبة في التخلص من الضيق، كأن يسيطر المريض هاجس الضيق من شعرات معينات في جسمه ولا يتخلص من الحاح ذلك الهاجس إلا بعد أن ينزع تلك الشعرات. أما النتف التلقائي فإنه يكون سلوكاً عفوياً يمارسه المريض من دون أن ينتبه أصلاً. وبتعبير آخر فإن النتف التلقائي لا يصاحبه شعور باللذة ولا يعقبه شعور بالندم كما في حالات النتف الاندفاعي ولا يكون دافعه الشعور بالضيق كما في الحالات القهرية.
نصائح علاجية

في الحالات المتقدمة، ينبغي عرض المريض على طبيب أمراض جلدية وطبيب أمراض نفسية كي يساعداه دوائياً ونفسياً على التخلص من تلك المشكلة ومن التأثيرات التي نجمت عنها.
أما في البدايات الأولى لهذا الاضطراب، فمن الممكن أن يتم احتواؤه بأساليب معينة، بما في ذلك: تجنب مسببات التوتر والقلق والضغط النفسي، وزيادة معدل الانهماك في الأنشطة التي تبعث على الاسترخاء والراحة النفسية، كالتمارين الرياضية، والتنزه، وسماع موسيقى هادئة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي