No Script

قرارات إخلاء السبيل ... لا إملاءات ولا ضغوط

No Image
تصغير
تكبير

هاجت مواقع التواصل الاجتماعي، تعليقاً على بعض ما تم تداوله من آراء ومحاولات تفسير بعد صدور أمر النيابة العامة بالإفراج عن متهمين بغسل الأموال بكفالات مالية عالية. ومن المؤسف أن الكثير من المتابعين للشأن العام، ومن ضمنه بالتأكيد قضايا الرأي العام، يتأثرون بعواطفهم ورؤاهم الشخصية تجاه القضايا، ولهذا تراهم أحياناً يرحبون ويطالبون بالإفراج عن متهمين، وفي أحايين أخرى تراهم لا يرحبون بالإفراج عن آخرين، وهذا ما لا تتبعه النيابة العامة في أعمالها أبدا. فتمثيل النيابة للمجتمع نابع من الدستور، اختصاصها الفريد والمهم والحيوي هو الذي يجعل من قراراتها ذات طبيعة شعبية، لكنها في الوقت ذاته رزينة لا تتأرجح، حكيمة لا يفسد قراراتها صيحة هنا أو تهجم هناك.
إن النيابة العامة هي جهة قضائية وجهة تحقيق، ولا تسعى وراء اعتقادات أو مطالب في تحقيقاتها، بقدر ما تسعى لتوخي سلامة إجراءاتها بما تكتمل معه ملفات القضايا، قبل إحالتها إلى القضاء. فالنيابة التي تمثل المجتمع في الادعاء هي خصم شريف، هذا ما يقر به الجميع دونما استثناء، وفي ذات الوقت هناك من يتوهم بوجود ضغوط للإفراج عن المتهمين، ويتساوى ذلك عند هؤلاء المتوهمين مع ما يتداولونه في مواقع التواصل الاجتماعي من عبارات التشكيك والطعن بالذمة والاتهام بالارتشاء وتقبل الضغوط. أليس هذا نوع الضغوط التي يحللونها لأنفسهم؟!
إن دعم النيابة العامة في تصديها للجرائم الكبرى دعم واجب، حري بالجميع تنفيذه بلا طلب سوى من الضمير، ودون إيعاز سوى من الإيمان بالدستور، وبأن هذه الجهة هي التي تتحرك باسم المجتمع حماية له، دون أن تؤاخذ على تقديراتها التي لا يمكنها الإفصاح عنها. فالواقع يحكي أنه كثيراً ما تعاملت النيابة مع قضايا ضخمة، ومرّ على قراراتها نواب ووزراء، وسوف تنظر في المستقبل قضايا لأعضاء في مجلس الأمة، فهل تنصاع مبكراً لرغبات مجهولي الهوية في وسائل التواصل الاجتماعي أم أنها تمارس دورها الطبيعي بعيداً عن الصياح والاثارة؟ فممثلة المجتمع يا سادة تعكس أخلاق المجتمع العليا، وهي الحكمة في التعامل والموضوعية في اتخاذ القرارات، وإن تدنى الخطاب العام فإنها لا ترمي نفسها والمجتمع من ورائها في أتونه، بل واجبها أن ترتقي بالخطاب المجتمعي ليرتقي.


إن واجبات النيابة العامة تنبثق من الدستور في المقام الأول، ومن سلطتها المقررة في قانون الإجراءات الجزائية، وما تمارسه اليوم لهو وليد قوانين وضعتها المؤسسة التشريعية، حتى أن تقليص صلاحية الحبس الاحتياطي كانت بقانون، وهذا القانون صدر من مجلس الأمة عام 2012، قدّر المشرع حينها ونظراً للظروف السياسية وحبس كثير من الناشطين السياسيين حبساً احتياطياً، فقرروا الحد من صلاحيات سلطات التحقيق في الحبس الاحتياطي، وكان ذلك تطبيقاً لقيم رفيعة بغض النظر عن دوافعها. فالدستور حمى الكرامة الإنسانية ولا أمسّ على الكرامة من الحبس، كما أن الدستور قوّم الأساس لشرعية الإجراءات الجزائية. فالمتهم أصبح بعد صدور الدستور بريئاً حتى تثبت إدانته، وبالتالي فإن تلك الصلاحيات المحدودة التي منحها المشرع – في أقصى حالات الانفعال – منحها سلطة حبس ضيقة تنتقل بعد فترة وجيزة لسلطة القضاء الذي يقرر كل أسبوعين الاستمرار بحبس المتهم أو بالإفراج عنه، ومثلما أعطى القانون صلاحية الحبس الاحتياطي للنيابة، وهو استثناء فإن الأصل في الإنسان البراءة، وهذا ما تدافع عنه النيابة العامة في الأصل حرية الإنسان وصون كرامته، وهذا ما يجب أن نؤيده من جانب حقوقي صرف بغض النظر عن مضمون القضايا وشخوصها.
لكل جريمة أركان وإجراءات، ولا مكان لغير القرائن والدلائل والاعتبارات القانونية في التعامل معها، ومهما كانت القضايا خطيرة وكبيرة. فالنيابة لا تنجر - كعادتها ولحساسية موقعها - إلى الجدال ولا تندفع في المواقف ولا تعمل العواطف في قراراتها. ففي المحاكم الجزائية يتلمس القاضي البراءة للمتهم، ولا يبحث عن الإدانة لأن الأصل في الإنسان البراءة. أما النيابة كجهة تحقيق فإنها تبحث عما يدين المتهم من دون أن تبخسه حقه، فالنيابة تمثل المجتمع في الادعاء، وهي خصم شريف، ولهذا لا تسمح لأعمالها أن تكون عرضة للأمزجة أو العواطف أو التأثيرات الخارجية. فالنيابة لا تبحث عن الإدانة بل تبحث عن الحقيقة، لهذا قدر لها القانون وأعطاها سلطة تقدير الاتهام وحفظ القضايا، وقد حفظت بالفعل الكثير من القضايا، وأنهت الكثير من الجدل في الرأي العام، هذا التجسيد الفعلي لشرف الخصومة التي تتحلى بها النيابة.
كل قضية مردها القضاء، في نهاية المدى، وهو الفيصل في جميع ما يُطرح في المجتمع من اتهامات ومن قضايا شائكة ومن تعقيدات، مهمته العظيمة تتمثل في الحفاظ على كيان الدولة، وهو ما نحيا لدعمه وتوطيده كلٌ حسب موقعه وقوة تأثيره... لهذا قيل اترك الخبز لخبّازه ولو أكل نصفه... فما بالنا وقد أكلنا كل الخبز ولم نترك لخبازه سوى حرارة الفرن اللاهب؟!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي