No Script

برامج الطهو بدّلت الـ MENU لتحاكي وصْفات التقشف

ولائم لبنان هجرتْها اللحوم وموائد تبحث عن.. بدائل

تصغير
تكبير
  • لبنانيون «يطاردهم» الجوع لجأوا إلى صيد الطرائد لتوفير اللحوم
  • مواطنون بدأوا بتربية الدجاج أو الأرانب وبعض الماشية لتأمين «خطة ب»
  • الشيف انطوان اقتطع اللحم من أطباقه ويقدّم بدائل «كاملة التغذية»
  • دلال كنج لم تعد تستخدم المكوّنات الغالية الثمن على الشاشة وتحرص على التقشُّف الـ «اوريجينال»

مَن كان ليعتقد يوماً أن الشعب اللبناني المضياف الكريم الذي تعوّد على رغد العيش وحب التميُّز، الشعب الذي طالما حفلتْ موائده بأكثر من 100 صنف من المازة وتباهى بأطباقه التراثية التي ذاع صيتها في أنحاء العالم أجمع، يمكن أن يصل الى مرحلةٍ تكاد أن تخلو موائده من اللحوم فيما المواطن يبحث ضمن المتوافر في سلّته عما يعوض عليه وعلى أطفاله هذا النقص؟ 

وضعٌ معيشي ضاغط أَطْبَق على «بلاد الأرز» مع الانهيار المالي - الاقتصادي و«احتراق» الليرة أمام الدولار فانقلبتْ حياة الأسر اللبنانية رأساً على عقب وتبدّل أسلوب عيشها وحلّت «الأزمةُ الشاملة» ضيفاً ثقيلاً على مائدتها أفرغها من أغلى موادها.

ما بدأ نوعاً من حُسْن التدبير عند ربات البيوت وشيئاً من التوفير والاقتصاد داخل الأسر تحوّل بسرعة ومع الارتفاع الجنوني للأسعار الى واقع مرير ألقى بظلاله القاتمة على قوت اللبنانيين اليومي وحرمهم أصناف أساسية هي حقّ لهم تعوّدوا تناولها في كل وجبة من وجباتهم. ليست أصنافاً فاخرة مخصصة للأثرياء ومُحِبّي الرفاهية، بل أصنافاً يومية تحتاج إليها كل أسرة في غذائها لتحافظ على صحتها وأبرزها لحوم الأبقار والأغنام ومشتقات الحليب من ألبان وأجبان. ولم يقتصر هذا النقص على الأسر المحتاجة المتواضعة الحال بل أصاب فئات واسعة من المجتمع اللبناني ووصل الى جيشه وشاشاته.

«ثورة» الشيف انطوان
وقد ضجّتْ وسائل الإعلام المحلية والعالمية أخيراً بواقعة خلو وجبات الجيش، المنتشر في المدن والأطراف للمحافظة على سلامة أبناء الوطن، من اللحوم الحمراء واقتصارها على الحبوب والخضار الأمر الذي أوْجَدَ موجةَ استياءٍ كبيرة في صفوف الناس وأثار عاصفة تضامن واسعة مع الجيش الذي يحتلّ مكانة خاصة في قلوب اللبنانيين بحيث أبدى البعض استعداده لأن يجوع وعائلته على أن يُترك الجيش بلا تغذية سليمة. و هذا ما دعا الحكومة إلى تَدارُك الأمر بسرعة و العمل على إعادة التوازن الى وجبات الجيش من خلال استخدام لحوم الدجاج البيضاء كونها أقل سعراً من اللحوم الحمراء.
ارتفاع سعر اللحوم الحمراء تَرَك أثره على كل العائلات اللبنانية التي باتت غالبيتها الساحقة تُصارِع الانهيارَ الكبير بـ «اللحم الحي» في ظل ارتفاع معدلات البطالة بشكل مخيف وتَآكُل القدرة الشرائية أمام «وحش» التضخم، حتى صارت الأُسَر تفتش عن بدائل تؤمن لها ولأطفالها تغذية ملائمة تعوّض عن نقص البروتينات الموجودة في اللحوم. وهنا كانت انتفاضة الشيف أنطوان الحاج، وهو أحد أشهر الوجوه اللبنانية في عالم الطهو حيث خصص برنامجَه اليومي الذي تنتظره كل ربات البيوت وحتى رجالها الى منصة لتعليم المواطنين طريقة طهو أطباق مغذّية مفيدة لا تحتاج إلى لحوم حمراء.
والشيف أنطوان الذي كان سابقاً يتوجّه بوصفاته الى الطبقة الوسطى، وَجَدَ نفسه اليوم مضطراً الى التوجه الى الطبقات الفقيرة بعدما بات كل لبنان يعاني من شح مالي ينعكس على أطباقه ووجباته. وقد أثارت لفتتة الشيف أنطوان اهتمام الصحافة العالمية بحيث خصصت صحيفة نيويورك تايمز مقالاً عن هذا الموضوع وكيف استطاع صاحب البرنامج المستمرّ منذ ثلاثة عقود أن يقتطع اللحم من قائمة أطباقه والاستعاضة عن ذلك بنصائح حول كيفية ‏إبقاء الأطباق لذيذة مع كمية أقلّ من الزيت والبيض والخضروات الرخيصة.

وفي حديث له (الى محطة MTV اللبنانية) قال الشيف أنطوان: «إذا اردتُ شراء 200 غرام من اللحم سأضطر لدفع ثمنها ما يقارب 25000 ليرة لبنانية، ولذلك ابتكرتُ طريقةَ جديدة للائحة الطعام اليومية التي أعدّها وصرتُ أحضّر طبقين، واحداً بالدجاج وآخَر بالحبوب أو الخضار وكلاهما لا يكلفان المبلغ المذكور سابقاً ويؤمنان كل الفيتامينات والبروتينات والأملاح المعدنية المطلوبة لوجبة متوازنة».
وأضاف: الدجاج لحسن الحظ ليس مرتفع الثمن نظراً لأن علف الدجاج مدعوم من الحكومة اللبنانية. فكيلوغرام واحد من الدجاج لا يتخطى سعره 6000 ليرة، ولذا باستخدام أفخاذ الدجاج مع الخضار مثلاً يمكننا تقديم طبَق مغذّ لذيذ و «شبيع» أي يكفي العائلة بأكملها دون كلفة كبيرة.
وأسعار الخضار كالكوسا مثلاً تشهد تراجعاً ملموساً، لأن الكثير من الناس زرعوا الخضار في أراضيهم وقد حان موسم جنيها اليوم، ولذا فإن اسعار الخضار التي تنزل الى السوق باتت أقلّ بسبب تَراجُع الطلب عليها. بالطبع هناك أصناف من الخضار لا تزال مرتفعة الثمن مثل البندورة (الطماطم) ولذا اكتفيتُ باستخدام راس واحد في طبَقي واستعضتُ عنها بمعجون البندورة وبالبابريكا الحلوة التي تمنح الطبق لوناً أحمر جميلاً يعوّض عن لون الطماطم.
أعدّ وجبات اليخاني مع الأرز الذي هو مادة مدعومة وسعرها مقبول لتستطيع العائلة المكوّنة من خمسة اشخاص أن تتناول وجبة متكاملة بكلفة لا تتخطى 25000 ليرة.

ولكن ماذا عن الحبوب ألم تشهد هي أيضاً ارتفاعاً خيالياً في أسعارها؟ ألم يبلغ ثمن كيلو الفاصوليا حدود 20000 ليرة وأكثر؟ فكيف يمكن للعائلات الفقيرة والمتوسطة أن تلجأ إلى هذا الخيار؟ الشيف أنطوان أيضاً وجد الحلّ، فالحبوب رغم ارتفاع سعرها قادرة بكميات قليلة على إشباع عائلة بأكملها»وكيلو العدس مثلاً لطبخة المجدّرة يُطْعِمُ مع طبق من سلطة الملفوف عائلة مكوّنة من عشرة أشخاص بكلفة لا تتعدى 15000ليرة«. وهكذا إذاً صار المواطن اللبناني يحسب كلفة كل طبق ويتحايل على أطباقه حتى لا يضطر لأن يمدّ يده لغيره أو يرى أطفاله مثلاً يجوعون أمام عيونه.
الشيف أنطوان ليس خجلاً او محرجاً بما يقوم به، بل هو فخور بذلك حسب قوله. وبعدما حَمَلَ المطبخ اللبناني الغني الى العالم وعلّم الناس أفخر الأطباق بأرقى المواد وأغنى اللحوم والطرائد ها هو اليوم يساعدهم على الصمود ويتحمل معهم أيام الضيق التي يمرّ بها لبنان على أمل أن تعبر بسلام.

التقشف بلمسة اوريجينال
بعد أن صار الشيف أنطوان»ترند«عالمياً، نتوجه لنستطلع رأي إحدى أبرز الطهاة في لبنان وأرْقاهم السيدة دلال كنج صاحبة برنامج les delices de Dalal للطهو الذي يحمل اسماً فرنسياً مرهفاً ومقدّمة فترة الطهو الشهيرة في البرنامج الصباحي على إحدى أشهر المحطات اللبنانية.
في فقرتها تتوجه السيدة كنج الى طبَقة معينة من الناس وتقدّم إليها أطباقاً رفيعة المستوى مرهفة جداً تتضمن مكونات باهظة الثمن، نادرة وليست بمتناول الجميع. عن أطباقها قال يوما أحد مقدمي البرامج الانتقادية إن على الشخص ان يتقدم بطلب قرض بالدولار من المصرف ليتمكّن من إعداد طبق من تلك التي تعلّمها عبر الشاشة.

اليوم هذا الواقع تغيّر والسيدة كنج مثل كل مواطن لبناني تشعر بتداعيات الأزمة، وهي تقول لـ»الراي«: بصراحة لم أعد أحضّر أطباقاً غالية الكلفة، فأنا أراعي شعور الناس بكل طبقاتهم، والواجب يفرض علينا ألا نتعالى على الناس أو ننظّر عليهم بأطباق لم تعد بمتناولهم. لقد غيّرتُ من أسلوبي، فلم أعُد أستخدم المكوّنات الغالية لكنني أحرص على المحافظة على اللمسة الأوريجنال التي تميّزني. صرتُ أطبخ بالفريكة والعدس والحمص، لكنني أعدّل في وصْفاتها وأحورها وأخترع فيها نكهات جديدة حتى تكون في متناول الجميع وتُحافظ على فرادتها. وفي الوقت نفسه استبدلتُ المكوّنات الغالية بأخرى قريبة منها وأرخص ثمناً، وأصبحتُ أعدّ صلصلة السلطة مثلاً باللبن واستبدلتُ كريما الطهو بالحليب لأؤكد للسيدة أنها يمكن أن تطهو أشهى الأطباق بمكونات موجودة في منزلها. كبد البط والسلمون والقريدس وجبنة الماسكاربون واللحوم الغالية، كلها مكوّنات غابت كلياً عن وصفاتي لأن أحداً اليوم لن يطبّق وصفات كهذه في بيته لا بل سأتلقى انتقادات كثيرة عنها، لكنني لم أنتقل كلياً الى الوصفات الشعبية، ذلك أن المشاهدين الذين اعتادوا متابعتي يرغبون بشيء مميز لا يزالون يقْدرون عليه. ومن جهة أخرى لا بد من القول أن ليس الجميع في لبنان في حالة مادية صعبة، فثمة أشخاص لا يزالون يقيمون المآدب الكبيرة في بيوتهم ومناسباتهم ولم يتأثّروا كثيراً بارتفاع الأسعار، كما أن لدينا متابعين من كل أنحاء العالم ينتظرون وصفاتنا المميزة المرهفة».
لكن رغم ذلك تؤكد السيدة كنج أن أكثر ما يتجاوب معه متابعيها اليوم هي الوصفات السهلة البسيطة وقد لاحظتْ ذلك بوضوح من خلال رسائلهم وتعليقاتهم «فالناس بغالبيتهم يتقشّفون في ظل الوضع المادي الصعب الذي يعيشه لبنان».

كيف ابتكر اللبنانيون البدائل
بئس الزمان الذي دفع بالمواطن اللبناني الى البحث عن طرق يتفادى معها الجوع. صحيح أن الحكومة أعدّت سلة غذائية مدعومة منها، وتشمل الأصناف الأساسية ومن ضمنها اللحوم والألبان والأجبان والحبوب لتكون بمتناول كل مواطن وكل عائلة، إلا أن الأمر ما زال غير واضح المعالم بعد ولم يلمس اللبانيون تراجعاً واضحاً في أسعار السلع الغذائية حتى ان البعض يتوجّس من أن يقضي التقهقر المستمرّ لسعر الليرة على فوائد السلة المدعومة فلا يعود المواطن قادراً حتى على شراء أصنافها. وكانت هناك صرخة لرئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو اعترض فيها على دعم السلع الغذائية وطالب الحكومة في المقابل بتأمين دعم مالي شهري للعائلات الفقيرة والمتوسطة لتتمكن من تأمين ما يلزمها.

وفي انتظار ان تظهر مفاعيل السلة الغذائية بالكامل، يحاول الكل ابتكار الحلول. بعضهم وجد الحل في الصيد البري وآخَرون في الصيد البحري، ولم يعد مستغرباً أن تجد أشخاصاً لم يحملوا قصبة صيد يوماً ولا مارسوا هذه الهواية يجلسون لساعات على صخور الشاطئ ليحظوا ببضعة أسماك. وقد يبدو المشهد سوريالياً للبعض أو خيالياً لكن يقول أحدهم وهو أب لعائلة متوسطة الحال «إن»جهاد السمك«ليس أقل قيمة من»جهاد الزراعة«الذي دعينا إليه. وفي ظل غياب الشغل وتوافر الوقت فإن صيد السمك يحل مشكلتين: مشكلة غياب اللحوم ونقص البروتينات، ومشكلة فائض أوقات الفراغ».
أما محبو الصيد البري فلم يجدوا ضالتهم بعد لأن موسم الطرائد لم يبدأ، ولكن يمكن لبعض العصافير الصغيرة أن تلبي الحاجة كما يمكن لبعض الطرائد الغريبة مثل الأرنب البري أو الغرير أن تكون مصدراً كافياً للحوم باتت تتوق إليها الشهية.

وكثيرون وجدوا الحل في الاكتفاء الذاتي فعمدوا الى تربية الدجاج أو الأرانب وطيور الفري وبعض الماشية كالماعز والخراف في قراهم الجبلية أو في أي قطعة أرض محايدة في بيروت والضواحي بحيث لا تزعج رائحة الدواجن والمواشي المتصاعدة منها الجيران. علماً أن بعض الأحزاب اللبنانية أو الجمعيات غير الحكومية كانت قد وزّعت على الناس والمحازبين الدواجن والمواشي للمساهمة في توفير الأمن الغذائي أقله لمناصريهم.
... هل تتخيّلون لبنان بلا كبّته النية أو مشاويه الشهيرة؟ وهل يمكن لبلدٍ تغلّب على أشرس الأعداء على مرّ تاريخه أن تهزمه قطعة لحم حمراء؟ ليس هذا ما يقوله اللبنانيون، فهم أبطال الحلول على أنواعها. وإن ضاق بهم العيش لفترة، لا بد ان يفتحوا بعزيمتهم وأدمغتهم أبواب الرزق أمامهم من جديد وأن تعود موائدهم عامرة بعد أن تنقضي مرحلة «الولائم المسمومة» في السياسة والمال والاقتصاد التي وضعت بلدهم أمام مفترق هو الأخطر منذ نشأته قبل نحو مئة عام.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي