No Script

من زاوية أخرى

حقيقة الهجوم على التيارات الدينية السياسية

تصغير
تكبير

منذ نحو مئة سنة ونيف، يعيش مجتمعنا العربي جدلية مستمرة، حول ما اصطلح عليه بمقولة «فصل الدين عن الدولة»، وللأسف أخذها البعض في مجتمعنا شماعة لمهاجمة التيارات والتجمعات الدينية، التي لها نشاط اجتماعي ووجود على الساحة السياسية، في تقليد غربي بحت، يهدف في حقيقته إلى فصل المجتمع عن نظمه الدينية والأخلاقية، كما هو حاصل الآن في المجتمعات الغربية. فهل في الحقيقة يمكن فصل الدين عن الدولة أو السياسة في مجتمعاتنا؟ وهل كان هناك انفصال بين الأمرين في مسيرة الحياة السياسية عبر التاريخ؟ وما أصل دعوة الفصل تلك؟ ومتى وصلت إلينا؟
إذا رجعنا إلى أصول فكرة فصل الدين عن الدولة وخلفيتها التاريخية، نجد أن الأصل هو فصل الكنيسة عن الدولة، وهي دعوة ولدت في عصر النهضة والتنوير والحداثة في أوروبا «المعروفة بالعصور الوسطى»، التي عرفت الفصل بين الزمني والروحي، أي بين الحياة الدنيوية والحياة الدينية، لأن لكل منهما فضاءه الخاص به. وبعد تفكك وانهيار علاقات الانتاج الاقطاعية التي دعمت سلطة الكنيسة والصراع العنيف بين الدول القومية الجديدة والكنيسة، تفجرت حركات الاصلاح الديني التي أطاحت بسلطة الكنيسة والكهانة مدعومة من قبل الدول القومية الجديدة. وكانت في مقدمة تلك الحركات الدينية الإصلاحية الحركة البروتستانتية بقيادة مارتن لوثر 1483-1546، التي تفجرت في وسط أوروبا والحركة الطهرية التي قامت في بريطانيا والأراضي المنخفضة.
وكانت الكنيسة الكاثوليكية دولة داخل دولة، تحتكر المعنى الديني، وتكفر كل من يخالفها مثلما تحتكر المعنى الاجتماعي والسياسي والثقافي، إضافة إلى احتكارها المعنى الأخلاقي. كما فرضت الكنيسة سيطرتها وأبوتها على جميع الناس، بسبب ما فرضته عليهم من ضرائب مالية عالية وواجبات كثيرة، وما أدخلته إلى الدين المسيحي الأصلي من بدع ومفاسد كصكوك الغفران وغيرها، وهنا وجد ما كان يعرف بـ«محاكم التفتيش» التي راح ضحيتها الآلاف من الضحايا، ما خلف نقمة شعبية كبيرة على رجال الدين. وعندها رفع الشعار الذي ورد في الإنجيل «أعطِ ما لقيصر لقيصر، وأعطِ ما لله لله».


فانطلقت رحلة العلمانية التي عملت على تحجيم الكنيسة وتعاليمها الدينية، ونجحت، ومع الزمن وصلنا إلى حالة من العلمانية المتطرفة التي أوجدت كل ما يخالف فطرة الإنسان، فظهر الإلحاد، ومعه كل مظاهر الشذوذ، من زواج المثليين، والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، حتى أصبح الزواج شيئاً مستبعداً في كثير من علاقات البشر هناك، وغير ذلك من مظاهر الخروج عن المألوف الطبيعي في حياة البشر. ولكن متى دخلت الدعوات إلى عالمنا العربي؟
مجتمعنا العربي، ومنذ قيام الدولة بشكلها المؤسسي، على يد الرسول الكريم صلى الله عليه وسـلم أصبح القائد الديني هو القائد السياسي المدير لشؤون الدولة، فكان القائد الديني قائداً سياسياً، وعاشت الدولة الإسلامية مع مرور عصورها على هذا الدستور، وخلال تلك العصور لم تشهد ما كان الغرب قد شهده من تجاوز رجال الكنيسة على الشعب باسم الدين، بل كان في واقع أمتنا العكس تماماً، إذ طالما كان رجال الدين في خدمة الأمة. حتى حل الخراب وسقطت الدولة العربية الإسلامية، وتمزقت رقعتها، وتناهبها الغزاة، وأصبح هناك بدل الدولة الواحدة دويلات إقليمية، بدأت وضع قوانينها الخاصة التي تتناسب مع وضع كل منها، وهنا برزت فكرة فصل الدين عن الدولة، ولا سيما في الدول التي توجد فيها فئات واسعة من المسيحيين، سواء في بلاد الشام، أو مصر، حتى رفع شعار «الدين لله والوطن للجميع»، فكان ذلك بذرة قيام الانظمة العلمانية البعيدة عن الدين، عززها الغزو الغربي للدول العربية، متمثلاً بفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، فبدأت العملية بتنحية الدين وجماعاته عن المشهد السياسي، وفي مرحلة لاحقة تمت ملاحقة تلك الجماعات واضطهادها حتى تم القضاء عليها في بعض البلاد.
أما في مجتمعنا الخليجي، فدعوة فصل الدين عن الدولة أو بمصطلح آخر «فصل الدين عن السياسة»، فهدفه بصراحة تهميش فئة واسعة من أبناء الوطن، لفجور في الخصومة فقط، لوجود تباين في الرؤى والمنهج، وحتى يتسنى لدعاة الفصل تغريب المجتمع وإدخال القيم الدخيلة بمظاهرها التي نرى منها الكثير في واقعنا، والتي لو سمحنا لدعاة الفصل بتحقيق أهدافهم فإننا سنجدها واقعاً مألوفاً كالسرطان يصعب استئصاله أو الشفاء منه.

h.alasidan@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي