No Script

حرائق لبنان و«دار الأمان»

تصغير
تكبير

«الله يجمعنا بدار الأمان، هذه أمانة ورثناها من اللي قبلنا علينا واجب نورثها».
بهذه العبارة الحكيمة والمُحبة أجابني صديقي الشيخ أدهم على شكري له على مروءته وشجاعته، بعد أن وصلتني صور له ولابنه الصغير بلباسهما التقليدي المشرول وهما يساهمان في إخماد النيران والحرائق المستعرة في جبل لبنان ومناطق أخرى من البلاد. تلك الحرائق المتكررة تأتي نتيجة ظروف عدة، أهمها الجفاف والأكثر أهمية غياب الدولة اللبنانية بشكل كامل عن التخطيط للتصدي للكوارث الطبيعية والذي يضاف إلى سجل فشل الطبقة الحاكمة المزري في حماية لبنان سياسيا واقتصاديا وحتى بيئياً.
مشهد النيران وهي تجتاح أحراش ساحل الشوف في منطقة جبل لبنان وتمتد لتحاصر منازل أهالي القرى والبلدات المجاورة لها أقلق اللبنانيين في الداخل والخارج وأعاد إحياء مشاعرهم الوطنية البعيدة عن الفاشية والتي يروج لها العهد الحالي على لسان صهر رئيس الجمهورية جبران باسيل الطامح الدائم للجلوس على كرسي قصر بعبدا كخلف لعمه. كثير من لبنانيي الداخل وبمختلف انتماءاتهم وطوائفهم لم ينتظروا تحرك دولتهم «القوية»، بل بادروا لإغاثة مواطنيهم، فتقاطروا إلى مسرح الكارثة وشاركوا في نجدة البشر والحجر إن كان عبر مكافحة الحريق أو عبر إغاثة العائلات المنكوبة التي دفعت بها النيران إلى الفرار بما خف حمله.


في مقابل النخوة الإنسانية للمواطنين اللبنانيين ظهرت الدولة اللبنانية بأطيافها وزعمائها كافة بموقف الضعيف غير القادر على ممارسة الواجبات الأساسية التي تجبى في سبيلها الضرائب. ورغم استبسال أجهزة الدولة وعناصرها من دفاع مدني وقوى أمنية تقاعَس الطاقم السياسي عن تحمل مسؤولياته في سوء التخطيط والتجهيز، موجهاً أصابع الاتهام إلى «راجح» الشخصية الوهمية في مسرحية الرحابنة. تقاذُف الاتهامات بين الطبقة السياسية الحاكمة دفعت بالبعض إلى الاعتقاد بأن الحرائق يمكن تفاديها بمجرد توفر قطع لصيانة الطائرات المخصصة للحرائق في مطار بيروت أو بأن يجهز الدفاع المدني بشاحنات إضافية قد تكفي للتصدي لتلك الكارثة.
إن الدولة الحقيقية بكل أجهزتها لا تبنى بالمال فقط، بل بتراكم خبرات معرفية يكتسبها الموظف العام -إن كان إطفائياً أو حتى حاجباً في قلم محكمة- من تجربة نظرية وميدانية، وهذه ثقافة مفقودة لدى الطبقة السياسية التي تستعمل النظام «الزبائني» لتكريس زعاماتها، ولو أتت على أنقاض المصلحة العامة. هذا على الصعيد الرسمي، أما على الصعيد الشعبي فإن الشعب اللبناني مسؤول ولو بشكل جزئي عن تلك الحرائق، إذ يقوم ببناء المدن المستحدثة في الأحراش والوديان من دون مطالبة الدولة باستحداث الطرق والبنى التحتية اللازمة، والتي قد تمنع تفاقم الكوارث الطبيعية وعلى رأسها الحرائق.
والمؤسف كثيراً أن أكثرية اللبنانيين يصرّون على أن هذه الحرائق مفتعلة من قبل «يد غريبة» مع الإيحاء بأن العنصر الغريب هو اللاجئ السوري الذي حان أوان رحيله إلى سورية بزعم أن منطقته آمنة ومستعدة لاستقباله. اتهام «الغريب» هو ثقافة لبنانية يروج لها الساسة وتتلقفها العامة تلقائيا في محاولة منها لرفض الواقع الذي نسجته أيديها. إن الحرب الأهلية اللبنانية هي حرب الآخرين على أرضنا، والضائقة الاقتصادية المفتعلة هي مؤامرة كونية على عهد ميشال عون القوي، والنار المستعرة في أحراش الدامور والمشرف و الدبية ليست نتيجة لغضب الطبيعة على تهور اللبنانيين البيئي بل هي فصل من فصول مؤامرة ما.
المأساة الحقيقية ليست في احتراق آلاف الهكتارات وتشريد المئات بل في كلام أحد نواب الشوف التابعين للتيار العوني، الطبيب ماريو عون، الذي وصلت به الوقاحة والمذهبية والعنصرية إلى التصريح بأن الحرائق المشبوهة تستهدف القرى المسيحية حصراً في محاولة جديدة لتهجير المسيحيين من مناطقهم. وضاعة عون تظهر العقلية المريضة التي يبشر بها أبناء حزبه، متناسية أن ساحل الشوف هو موطن مختلف الطوائف اللبنانية من دروز وسنة وشيعة وليس قلعة من قلاع العرق الفينيقي المتفوق بحسب سرديتهم.
إن لبنان يحترق من الداخل ليس بسبب جفاف الطبيعة بل بسبب جفاف البئر الأخلاقي لدى العديد من اللبنانيين الذين يمثل ماريو عون عينة منهم. ورغم خطورة المرحلة والسقوط الاقتصادي والسياسي الكبير للبنان، يبقى هنالك أناس من طينة الشيخ أدهم يؤمنون بأن عشق الأرض والنخوة والمحبة هم مفتاح بناء الوطن لنكون جميعنا، كما يقول صديقي، في دار الأمان.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي