No Script

«الراي» زارت خيمتهم في «ساحة الشهداء»

ذوو عسكريين أسرى «يصرخون» من... الرعب: السكّين تقترب كل يوم من أعناق أبنائنا

تصغير
تكبير
أمام هول المصاب، لا تخن إنسانيتك.. واذرف دمعة تواسي بها أماً تكابر على أشباح مخيلتها ولا تستكين، ووالد يستعيد شريط حياة فلذة كبده منذ الولادة مروراً بفخر الانضمام إلى المؤسسة العسكرية وارتداء البذة المرقطة إلى أن كان ذاك الرحيل نحو المجهول.. والدان تراهما وسط النحيب وبعد مضي أكثر من شهر على وقوع ابنهما مع رفاقه من العسكريين وعناصر قوى الامن في قبضة «داعش» و«جبهة النصرة»، يطبعان قبلة خوف على صورة في الذاكرة، بعدما جثمت أمامهما صورة السكين تقطع بحقد رأسيْ العسكرييْن الشهيدين علي السيد وعباس مدلج.

الى ساحة الشهداء في وسط بيروت، «نزحت» خيمة من عكار (شمال لبنان) يلتقي فيها ذوو عسكريين وقعوا في الأسْر إبان معارك عرسال التي اندلعت في الثاني من اغسطس الماضي بين الجيش اللبناني و«الدولة الاسلامية» و«النصرة»، وذلك للمطالبة باستعادة ابنائهم.

في الخيمة التي «افتُتحت» قبل أيام قليلة ويأمل القيّمون عليها ان تشكّل «منبراً» لكل اهالي العسكريين الأسرى، يجلس رجال من فنيدق العكارية مع وافدين انضموا إليهم من القلمون الشمالية ومدوخا البقاعية بصمت، فيما يجالسهم الهمّ ويخيّم عليهم الألم والترقب لمصير أب أو أخ أو جار أو صديق.

فالأهالي الذين «نزحوا» متأبطين مأساتهم، يحضر معهم الأقارب والأصدقاء وينضم إليهم اخوتهم في «المصاب» من مختلف المناطق اللبنانية، عسى أن تكون عصبتهم أشد تأثيراً في النفوس والعقول، فتذلل معضلة «التفاوض أم المقايضة» وتستقر الحكومة اللبنانية على وسيلة تفك أسر «الشباب» وتعيدهم سالمين إلى أسرهم.

حسين يوسف والد العسكري المخطوف محمد، ابن مدوخا في البقاع الغربي، قدم إلى ساحة الشهداء خالي الوفاض من أي تطمين أو معلومة تبرّد قلبه وتمدّه بالصبر لتحمل طول الانتظار، فيشير بأسى إلى أن «الخوف على أبنائنا أفقدنا الثقة حتى بأنفسنا»، ويلفت بوهن إلى «أننا لا نعلم ما ستكون عليه ردة فعلنا إذا شعرنا بزيادة الخطر على أبنائنا، ولا سيما أن السكّين تقترب كل يوم من أعناقهم».

لكن حسين، إذ يتحدث عن قلقه على مصير محمد مؤكداً ضرورة إعادته إلى أهله ومحبيه، يشدد في المقابل على أنه مستعد لتقديم كل أبنائه للدفاع عن كرامة الوطن. هو على قناعة تامة كما كل المعتصمين بأن هيبة الدولة أو أي انسان لا تُكسر إذا فاوض لاسترداد أبنائه وإبعاد الخطر عنهم، بل يرى أن «هيبة الدولة تكمن في استعادة حقها وإعادة أبنائها»، مشدداً على ضرورة «إنتهاء المفاوضات بأسرع وقت لأن الوقت ليس في مصلحتنا، ففي كل يوم يمرّ تقترب السكين أكثر من رقاب أبنائنا».

في الخيمة المجاورة نسوة شحّ دمعهن. أم وأخت وزوجة وابنة في أشهر عمرها الأولى. هنّ أيضاً يتسلحن بالصمت هنيهة، ثم ينفجرن شاكيات مستذكرات وذاكرات لله ليعيد العسكري خالد مقبل حسن سريعاً. ربما تكون اللافتة التي رُفعت على مدخل الخيمة الرئيسية مناشدةً «ارحموا دموع الأمهات الثكالى ولوعة الأطفال» اختزالاً باهتاً لمعاناتهن. فما في القلب «بركان» لا «يحرق» إلا مَن يشعر بمرارة الفراق، ولا يدمي إلا أن مَن يتذوق القلق المرعب من نصل السكينة وحاملها، ولا سيما أن «داعش» ما كذبت خبراً، وقطعت الشك باليقين بأن ما تهدد به قادرة على فعله وأكثر بذبح العسكرييْن علي السيد وعباس مدلج بسكين أخرس ودم بارد لا يعرف الإنسانية.

تتردد أم العسكري المخطوف خالد مقبل حسن في الحديث إلى «الراي» بعدما أعياها التعب وأرعبها طول الإنتظار. ترقد قليلاً في خيمتها، ثم تخرج وحفيديْها أولاد وحيدها خالد لاستنشاق قليل من الهواء. تجلس بصمت، ثم ترفع يدين إلى السماء راجية من الله أن يفرح قلبها وقلب جميع الأمهات بعودة ابنائهن الى منازلهم التي تفتقدهم منذ ما يزيد عن شهر. ثم تروي بقلب مفطور روتينها اليومي مع القلق والألم والخوف من «أن يكون مصير خالد «الذبح» كما علي وعباس».

بعد ان تفرك الحاجة الستينية عينيها بمنديلها المبتل بالدموع والذكريات، تشير بيدها إلى طفلين شقراوين، فتقول بلهجتها العكارية: «هذا مقبل ذو العام والنصف لا ينفك يسأل صبح مساء عن والده، أما تلك الطفلة البريئة آزاد ابنة الستة أشهر فهي تتمسك بالهاتف وتنهال بالقبل على صورة والدها، وتجهش بالبكاء إن أخذه أحد منها».

تضم «الحاجة» أم خالد حفيدها «مقبل»، تعيد عليه سؤالها بألم: «أين البابا»؟ فيجيب هو بفرح: «في الجيش». تأخذ نفساً عميقاً لتكتم صرخة أعمق، ثم تكشف بحزن أنها لم تسمع خبراً عن ابنها إلا ما تنشره وسائل الإعلام ويتناقله كل الناس. وتسأل: «مَن يطمئنني عنه!؟». تصمت. ثم ترفع عينيها إلى السماء، لتقول: «أصلّي وأرفع لله تعالى دعائي بأن يعيد خالد إلينا سالماً، وألا يصيبه أي مكروه».

الوالدة المترقبة على جمر لا يطفئه إلا اللقاء، تلفت إلى أن خالد حاضر دائماً في الذاكرة، ولذا يشتعل قلبها بين الفينة والأخرى فتطلق العنان لصرخات الألم واللهفة من فؤاد عليل، ثم تسقط خائرة القوى. بناتها الثلاث يبكين أيضاً شقيقهنّ الوحيد خالد، لكنهن يجهدن للتماسك في حضرة الأم رأفة بأعصابها وقلبها المتألم، ولا سيما أنها تؤكد بقاءها في وسط بيروت حتى عودة خالد سالماً غانماً إلى أحضانها، داعية كل المعنيين إلى مساعدتها وإعادة «ضناها».

الزوجة «وضحة»، لن تعود هي أيضاً إلى منزلها الزوجي من دون خالد. فأي حياة أسرية ستعيشها من دونه، ولا سيما أنها أم لطفلين يحتاجان الى والدهما أكثر من أي إنسان آخر.

بمرارة تطالب «الدولة الإسلامية»: «بما أنهم يقولون إنهم إسلام ويعرفون الله والدين، ندعوهم أن يشفقوا على هذين الطفلين ويعيدوا لهما والدهما خالد»، مطالبة الدولة اللبنانية بمفاوضة الخاطفين «فقد مرّ وقت طويل على أسر زوجي والعسكريين ولا بد من الشروع في المفاوضة لاسترداد المخطوفين، الذين كانوا يدافعون عن لبنان!». تصمت وتغلق عينيها لبرهة، ثم تكشف ما ينبئها به قلبها، قائلة: «سيعود بإذن الله، الله كريم».

المعتصمون الآخرون يتوزّعون بين الخيم الأربع، البعض ينشغل بالحديث إلى وسائل الإعلام، بينما يتبادل اثنان أو ثلاثة أطراف «المعاناة». الفتية الذين انتهوا من رص اللافتات في المحيط، يجلسون مستعجلين وصول خبر سار يفرح قلوبهم العطشى في هذا الطقس الحار. يتأملون صورة الأسير ابراهيم مغيط وإلى جانبه سيرته الذاتية التي تقرّ بأن اسم ابيه «لبنان»، واسم أمه «الجمهورية اللبنانية» وأن رقم سجله هو مساحة لبنان اي 10452 كيلومتراَ مربعاً، بينما تبرز بـ «الأحمر العريض» مناشدته والديْه وجميع الشعب اللبناني المسارعة لتحريره ورفاقه من الأسر.

ويحزن الفتية عندما تمرّ عيونهم على صورة الشهيد علي السيد، الذي «حضر» الاعتصام مزهواً فخوراً بزيه العسكري خالداً ببهائه هذا في صورة عملاقة، ليردّدوا معاً بصمت ما كُتب على احدى اللافتات من أن «كرامة الوطن مخطوفة بخطف العسكريين»، فيزدادون إصراراً على ضرورة المضي بالتحرك حتى يعود الشباب خالد ومحمد وجورج وابراهيم وأحمد و... الجميع.

الشيخ عمر حيدر، ابن فنيدق (عكار)، يأخذ على عاتقه مهمة نقل حجم معاناة الأهالي جيمعاً، ولا سيما أنه مسؤول العلاقات العامة في لجنة المتابعة لقضية المخطوفين. ويوضح أن الاعتصام هو «للمطالبة بفك أسرانا العسكريين المخطوفين، وخصوصاً أن المؤسسة العسكرية هي ركن من أركان هذا البلد، وأن ما من هيبة للدولة إلا بهؤلاء العسكريين وهذه المؤسسة».

وإذ يضع هذا التحرك في سياق «تلبية دعوة المخطوفين ومناشداتهم لأهاليهم والأصدقاء النزول إلى الطرق للضغط على الحكومة للقبول بخوض المفاوضات»، يكشف أن «هذه الخيمة هي مبادرة عكارية للتنسيق مع كل أهالي المخطوفين دون استثناء»، مشدداً على أن «الاعتصام مفتوح، ونشاطات «الخيمة» مستمرة حتى عودة أبنائنا بإذن الله سالمين».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي