No Script

مذكرات أحمد اسماعيل ... وزير الحربية في معركة أكتوبر 1973 / 2 من 2

تصغير
تكبير
| القاهرة ـ «الراي» |

على مدى الأربعين عاما الماضية تعرضت حرب أكتوبر لهواية مصرية قديمة، وهي كتابة التاريخ بالهوى الشخصي... الحقائق هي ما نراه نحن، والوقائع بين أصابع من يدوِّنها.

لذا بات طبيعيًّا أن يفتح المؤرخون مئات الكتب والمؤلفات للسادات ومبارك، ويتجاهلوا وزير الحربية المشير أحمد إسماعيل، الذي وضع خطة الحرب وقاد الجيش في نصر أكتوبر... وكأن الموت الذي خطف المشير المنتصر عقب أشهر قليلة من الحرب، خطف معه دوره البارز في الحرب.

غير أن شجاعة وجرأة الرجل الذي كان متقاعدا في بيته قبل الحرب لا يمكن أن تنسى، بل كان أكثر شجاعة وكفاءة من قادة قالوا للسادات: «ليس بمقدورنا أن نحارب الآن».

ولأنه لا يؤمن بالمستحيل، استدعى القائد الذي يمتلك إرادة حقيقية، وخطة متكاملة.. وكان المشير أحمد إسماعيل، أول من أطلق العبارة التي صارت أيقونة عالمية «Yes We can.».

وفعلها دون أن ينصت لتحذيرات المحيطين به من المصير الكارثي لو خسرت مصر.

لهذا نقبنا عن مذكرات المشير الراحل أحمد إسماعيل التي كتبها بخط يده، وأعاد صياغتها وكتابتها بشكل رشيق الكاتب الصحافي رئيس تحرير يومية «الوطن» المصرية الزميل مجدي الجلاد.

من منطلق رد الجميل والعرفان لمواطن مصري ضحّى بحياته ليرفع علم مصر عاليا فوق أرض سيناء، وهو واجب أيضا على أجيال عاشت كريمة بفضل هذا الانتصار، لكي يعرف أبناؤنا وأحفادنا من هو المشير أحمد إسماعيل، بطل حرب أكتوبر، الذي تجاهله البعض لأنه كان يؤمن بمبدأ العمل في صمت!



• مهمتان كانتا حاسمتين في تحقيق الانتصار... التنسيق مع سورية وصفقة سلاح استثنائية من الاتحاد السوفياتي

• بعد اجتماع غاضب وتخوفات من الحرب صدر قرار إقالة الفريق صادق

• رشحت للسادات 5 أشخاص لتنفيذ خطة الحرب التي وضعتها لكنه لم يوافق على أي منهم

• مرضا «الخنادق» و«التراخي» كانا أول مشكلة واجهتني لما لهما من تأثير على الروح المعنوية وكفاءة القتال للجنود

• عندما كنت أتكلم عن ضرورة الحرب كان البعض يبتسم وكأنني أتحدث عن خيال

• زرت دمشق 5 مرات خصصت في أولاها بعض المهام القتالية للقوات المسلحة السورية

• ارتباطي بروسيا بشكل «شخصي» مكنني من إبرام صفقة معهم لتوريد الأسلحة لمصر رغم سوء العلاقات





في 26 أكتوبر 1972 أبلغه السادات بقرار تعيينه وزيراً للحربية



خيار الحرب ... بعيداً عن الكرسي



ويكمل وزير الحربية المشير أحمد إسماعيل حكاية الحرب؛ ويقول: كان اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 24 أكتوبر 1972 في مكتب الرئيس بالجيزة في الساعة التاسعة مساء أخطر اجتماع تاريخي، إذا أردنا أن نقيّم الوثائق العسكرية لحرب أكتوبر، فقد حدد فيه السادات الموقف بحسم، دون أن يسمح بأي تراجع أو تشكيك، الموقف هو الحرب.. تحريك القضية عسكريّا، وأعلن للقادة في هذا الاجتماع أنه ليس الرجل الذي يناور لكي يحتفظ بكرسي الرئاسة.. وأعلن أنه لن يستسلم وأن الموت في سبيل الأرض أشرف من هذه الحياة المهينة. وقال لأعضاء المجلس الأعلى إنه يستدعيهم؛ ليبلغهم هذا القرار المصيري؛ لا مناقشة في قرار الحرب؛ ولكن يجب الاستعداد بالتخطيط والدراسة، والاعتماد على ما نملك من تسليح.. وعلينا أن نعوض التفوق الإسرائيلي بروح العسكرية المصرية.. بروح المقاتل المصري.. بشجاعة الإنسان المصري.

واتضح في الاجتماع؛ أن بعض القادة لا يريدون الحرب خوفا من أن تنتصر إسرائيل، وتضرب في الأعماق، وتكون النتيجة خرابا.. وذلك بسبب موقف الاتحاد السوفيتي من ناحية التسليح.

وغضب السادات، وأصر على قرار الحرب، وأعلن أنه مؤمن بالعسكرية المصرية. وإذا كانت إسرائيل متفوقة في الجو، فلن تتفوق أبدا على الأرض، وأنه علينا أن نواجه قدرنا ومصيرنا بشجاعة.. إن الاتحاد السوفيتي لن يحارب من أجلنا ونحن نرفض أن يحارب أحد من أجلنا. هذه معركتنا. إما أن نكون أو لا نكون.

كانت جلسة عاصفة.. وأعلن غالبية أعضاء المجلس الأعلى أنهم مصرون على المعركة.. ومستعدون للتضحية، وبعدها صدرت قرارات الرئيس بإعفاء الفريق صادق.. ومساعد وزير الحربية اللواء عبدالقادر حسن.. وقائد البحرية اللواء محمود علي فهمي.. الذي كان قد تدخل في المناقشة العنيفة لتهدئة الجو.. ولكن كلماته صدرت وكأنها مؤيدة لما قاله اللواء عبدالقادر حسن.

رغم مضي أكثر من عامين؛ فإنني أتذكر ملامح نهار أحد الأيام المهمة والحاسمة في تاريخ حياتي كلها، بل لعله أهمها على الإطلاق.

وعن يوم جديد، يكتب المشير أحمد إسماعيل في مذكراته.

التاريخ: 26 أكتوبر العام 1972م «19 رمضان 1392هـ»، الساعة الثالثة بعد الظهر.

المكان: منزل الرئيس محمد أنور السادات بالجيزة.

كنا نسير في حديقة المنزل، ولم أكن أدري سبب استدعائي، لكنني توقعت أن يكون لأمر مهم وخطير، وبعد حوار قصير عن الموقف حدث ما توقعته، أبلغني الرئيس قرار تعييني وزيرا للحربية، وكلفني بإعداد القوات المسلحة للقتال بخطة مصرية خالصة، تنفذها القوات المسلحة لتخلص بها الوطن من الاحتلال الصهيوني.

كان لقاؤه بي ودودا إلى أقصى حدّ، وحديثه صريحا إلى كل حدّ، وعندما انتهى اللقاء وركبت السيارة لتنطلق بي عبر شوارع القاهرة، بدأ شريط طويل من الذكريات والأحداث والظروف يمر في ذهني وأمام عينيّ.

ها أنا أعود مرة أخرى لأرتدي الملابس العسكرية.

كانت آخر مرة خدمت فيها يوم 12/ 9/ 1969 عندما استدعاني وزير الحربية وأبلغني بقرار إعفائي من منصبي كرئيس للأركان، ورغم مضي أكثر من خمس سنوات فإنني لا أزال أذكر أنني قلت لوزير الحربية لحظتها «كل ما رجوته أن أتمكن من الاشتراك في القتال عندما يتقرر قيام القوات المسلحة بحرب شاملة ضد إسرائيل، وفي هذه الحالة أرجو أن أعود للخدمة ولو كقائد فصيلة أو جندي...».

وبتُّ شهورا طويلة أمارس حياتي كـ«لواء» متقاعد، أتقاضى معاشي، ولم ينقطع تفكيري عن القوات المسلحة، لدرجة أنني تخيلت نفسي وكأنني لا أزال في الخدمة، وتصورت ما كنت سأفعله حينذاك، وكتبت تقريرا عما يمكن أن تقوم به القوات المسلحة في أي عمليات مقبلة لاقتحام قناة السويس والانطلاق لتحرير الأرض، وفي فجر 14 مايو 1971 أصدر الرئيس محمد أنور السادات قرارا بتعييني رئيسا للمخابرات العامة، وبدأت أمارس مهمتي الجديدة، التي جعلتني قريبا جدّا من القوات المسلحة ورفاق السلاح والعمر، لكنني رغم تلك المشاركة؛ فلم أتوقع - كما ذكرت يوما- أن أعود للخدمة في صفوفها مرة أخرى.

مضيفا: كنت بحكم عملي كرئيس لجهاز المخابرات العامة أقابل السادات بشكل مستمر، وكنت أعلم أنه لديه نية قوية لإعلان الحرب على إسرائيل، فانتهزت الفرصة وعرضت عليه خطة حرب أكتوبر وتحرير سيناء على مراحل، والحصول على جزء من الضفة، وأعطيته المقال والخطاب اللذين كنت أريد إرسالهما قبل ذلك إلى الرئيس عبدالناصر، وفي أحد أيام شهر رمضان العام 1972، كان «سيف» ابني الأصغر، يذاكر على منضدة «السفرة»، ووجد سيارة نصف نقل تدخل إلى جراج ال?يللا بظهرها، وكانت غرفة السفرة تطل على الجراج، واعتقد سيف في البداية أن السيارة أخطأت ودخلت إلى ال?يللا بطريق الخطأ، لكنه اكتشف أن عليها مُجسما يحمله 3 أشخاص، مصنوعا من الأسمنت، على شكل سيناء، ثم فوجئ بدخولي والرئيس السادات عليه في غرفة السفرة وأمرناه بمغادرتها، وبدأ السادات يقول لي «اشرح لي الفكرة التي أخذتها منك، وكيفية تنفيذها»، فبدأت أشرح الفكرة، وظللت لمدة أسبوع ما بين منزل الرئيس السادات ومنزلي، وبعد انتهاء الأسبوع اتصل بي الرئيس وطلب مني الحضور لمنزله، وكنا وقتها لا نزال في شهر رمضان، وقال لي السادات «رشح لي 5 أشخاص من الجيش المصري لتنفيذ الخطة التي تم وضعها»، فرشحت 5 من القادة الموجودين في الجيش، لكن السادات لم يوافق على أي منهم، وقال لي: «واضح أنه قدرك يا أحمد، وأنا أريدك أن تتولى رئاسة الجيش المصري وتنفذ خطة حرب أكتوبر».

ويقول من جديد «ها هو اليوم قد جاء عندما كلفني القائد الأعلى بالمهمة.. ورغم ضخامة المسؤولية وخطورة حجمها كنت على قدر كبير من التفاؤل والثقة بالنفس، وبشكل مبدئي أجريت بناء على ما لديّ من معلومات تقديرا شاملا للموقف، وليس سرّا أن القوات المسلحة المصرية كانت تعاني مشكلات عديدة تطلبت مني أن أضع أولويات لها وفق خطة سليمة وبدقة».

من هذه المشكلات؛ على سبيل المثال:

- مضي 5 سنوات والقوات المسلحة رابضة في خنادقها على جبهة القناة. وبهذا أصبح الأفراد مهددين بما يُطلق عليه عسكريّا مرض الخنادق من طول المدة، وذلك أمر خطير يؤثر على الروح المعنوية وكفاءة القتال.

- السياسة دخلت إلى القوات المسلحة من الباب الخلفي، لكثرة الأحاديث السياسية من غير المختصين، واهتزت الثقة وتخلخلت في نفوس بعض القادة وبين صفوف القوات المسلحة؛ بحيث لاح مرض التراخي شبحا يوسوس بعدم المقدرة على أي عمل قتالي.

- نتيجة ما سبق أصبحت كفاءة الخطة الدفاعية عن الدولة موضع شك، وساءت التجهيزات الهندسية، وأُهمل العمل تماما في تحسين أوضاع القوات؛ بحيث صار الحال في مواقع الجبهة بغير تجاوز دون المستوى المطلوب».

وتمضي سطور المذكرات ويكتب المشير: «كنت أتحدث إلى القادة والضباط والجنود بإصرار أن القضية لن تُحل إلا بالحرب وفق خطة مدروسة ذات أهداف محددة واضحة، لكن البعض كان يبتسم كأنني أتحدث عن خيال؛ لأنهم كانوا قد وصلوا إلى درجة اقتنعوا معها بأنه لا قدرة على ذلك الحل».

وبدأت تنفيذ الخطة في ظل الإمكانيات الموجودة في الجيش، وتطورت الفكرة وعرضت على القوات المسلحة، وأصررت على الحصول على تصريح مكتوب من الرئيس السادات، وكانت وجهة نظر قادة الجيش أن نضرب أكبر ضربة ممكنة، وعندما نتلقى منهم ضربة نكون كبدناهم ضربات مبرحة، ثم ندخل على السلام، وأننا نستطيع أن نعبر ونحرر أرضنا على مراحل.

وفي الجلسة مع قادة الجيش في الشهر الثاني من تولي القيادة، شعرت بموقف جديد بعد زيارتي لسورية، وهو أن التنسيق بين مصر وسورية ستكون له نتائج حاسمة، وتوجد 3 مراحل واضحة ومحددة للعمل، وقرار إنهاء عمل المستشارين السوفييت يعني أننا قادرون على التخطيط وإدارة المعركة، وقلت خلال الجلسة الثانية: «لقد مررت على الجبهة والعجلة تدور بجدية في كل اتجاه، وأريد أن أؤكد على الآتي:

- يجب أن يقتنع الجميع اقتناعا كاملا بأنه لا يوجد حل سلمي، علاوة على أننا عسكريون لا دخل لنا بالسياسة.

- لا بُد من المعركة لحل القضية، وسنقاتل بإذن الله.

- مادام أن هناك معركة، ومعركة شرسة، فلا بُد من الاستعداد لها تماما.

- هذه المعركة المنتظرة ستكون بإمكانياتنا المتيسرة، وبحسابات دقيقة دون تهور، وفي الوقت نفسه دون تخاذل.

- نتيجة لزيارتي لسورية شعرت بموقف جديد، تأكدوا أننا لسنا وحدنا في المعركة. إن التنسيق - وهذه مسؤوليتي- بين سورية ومصر ستكون له نتائج حاسمة، وتأكدوا أن ذلك سيتم بمشيئة الله.

- يجب العمل على 3 مراحل واضحة:

* المرحلة الأولى: الاطمئنان التام على الخطة الدفاعية ومراجعتها بواسطة القادة على كل المستويات، واستكمال تجهيز مسرح العمليات بما يؤمن الخطة الدفاعية ويخدم المعركة الهجومية، وتجهيز خطط الردع والتدريب المتواصل والشاق ليلا ونهارا لإعداد القوات لمهامها.

* المرحلة الثانية: إعداد الخطة الهجومية واستكمال تجهيز مسرح العمليات للهجوم.

* المرحلة الثالثة: استكمال إعداد القوات للهجوم، وانتظار القرار السياسي لبدء العمليات وبكل جدية. وفي هذا المجال أؤكد على الابتكار وعدم النمطية والعناية الكاملة بالأسلحة والمعدات، ويجب أن تتأكدوا أن قرار إنهاء عمل المستشارين السوفييت كان على أساس أن القوات المسلحة المصرية قادرة بقادتها ورجالها على التخطيط وإدارة المعركة المقبلة، ويجب أن نكون أهلا لهذه الثقة».

وخلال الفترة ما بين تعييني وزيرا للحربية، وبين حرب أكتوبر، زرت سورية 5 مرات، بهدف تنسيق جهود القوات المسلحة في البلدين للقيام بعمل عسكري مشترك في إطار الاتفاق السياسي بين كل من الرئيس محمد أنور السادات والرئيس حافظ الأسد، وكانت الزيارة الأولى من 10 إلى 13 فبراير العام 1972، وكانت أهدافها مراجعة الخطة والتخطيط لعمليات الردع، والإعداد لعمليات هجومية مشتركة.

واستقبلني الرئيس حافظ الأسد وتبادلنا وجهات النظر في الموقف، ثم تبادلت الآراء مع اللواء مصطفى طلاس والقادة العسكريين السوريين، وذلك على ضوء الاقتناع الكامل بعدم جدية الحل السلمي. وخصصت بعض المهام للقوات المسلحة السورية، وهي نفس المهام التي أصدرت بها أوامر للقوات المسلحة المصرية في أولى جلساتي مع القادة.

كان الإعداد للحرب يتطلب مني أداء مهمتين؛ الأولى التنسيق مع سورية في سرية تامة للدخول في الحرب بعد أن طلب الرئيس أنور السادات مني بدء الاستعداد للحرب فعليًّا. وهو ما استدعى سفري إلى سورية يوم 10 نوفمبر العام 1972، وكان معي رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة اللواء محمد عبدالغني الجمسي وسكرتير عام وزارة الحربية اللواء حسن الجريدلي، وسكرتيري العسكري حمدي الجندي.

وقضينا في سورية 3 أيام اجتمعت فيها مع الرئيس حافظ الأسد لمدة 3 ساعات منفردين، وطلب حافظ الأسد أن نكون بمفردنا وأمر الجميع أن يتركوا المكتب بمن فيهم وزير الدفاع السوري، وتحدث معي عن الحرب التي نخطط لها. وبعد هذه المقابلة وافق الأسد على دخول سورية الحرب مع مصر، وظللنا خلال ثلاث ساعات نتناقش في كيفية التنسيق بين البلدين، وعدم تخلي أي منهما عن الآخر في الحرب، واتفقت معه على ذلك، وهو ما يفسر تطوير مصر للهجوم على إسرائيل أثناء الحرب يوم 14 أكتوبر العام 1973 لتخفيف الضغط عن الجبهة السورية التي كانت إسرائيل اقتربت من السيطرة عليها.

أما المهمة الثانية؛ فكانت صفقة أسلحة الاتحاد السوفيتي التي تعتبر من أهم المهام التي قمت بها، رغم أنها شديدة الصعوبة بعد ترحيل الخبراء الروس من مصر العام 1972. وقتها كانت العلاقات سيئة بين مصر وروسيا، وعندما سافرت إلى روسيا استطعت إبرام اتفاق معهم بشكل شخصي لتوريد صفقة الأسلحة لمصر تقديرا من الروس لقدرتي العلمية والعملية ولارتباطهم بي بشكل شخصي. وتعتبر الصفقة من أكبر الصفقات التي قامت بها مصر مع روسيا بشكل مباشر عبر مدير المخابرات الروسي وقتها «أندروا بوف»، وكان صديقا شخصيّا لي، وكان لـ«بوف» سلطة قوية في الاتحاد السوفيتي، وعن طريقه استطعت إتمام الصفقة.

كان الاستعداد للحرب يجري على قدم وساق. كنا نسابق الزمن ونعالج كل ما يصادفنا من عوائق، وفي الأول من أكتوبر، أصدر الرئيس السادات توجيه الحرب.

وبدأ العد التنازلي، كانت الأيام تقترب من ساعة الصفر، واضطررت للسفر لسورية يوم الثلاثاء السابق ليوم السبت الذي حُدد لبدء العمليات العسكرية، وعدت في اليوم نفسه، وكان الهدف تحديد ساعة الصفر، وفي اليوم التالي ذهبت ومعي «سيف» ابني الأصغر إلى أحد أقاربنا للإفطار معهم في شهر رمضان، وأثناء ذهابنا في الطريق إليهم أخبرت «سيف» أني أريد زيارة قبر والدي، وهناك دار حوار وقلت له: «احتمال أكون هنا بعد أيام قليلة، وأُدفن بجوار جدك». لم يرد «سيف»، والتزم الصمت والدخول في حالة خوف على والده، فقلت له: «أريد أن أقول لك شيئا.. إنني مخلص للبلد وأبذل قصارى جهدي لخدمته».

كان «سيف» يشعر أن شيئا مهمًّا أو حربا ستقع خلال الأيام المقبلة، خصوصا بسبب زياراتي المتقطعة إلى المنزل في شهر رمضان؛ حيث كان المعتاد أن أوجد على الإفطار مع الأسرة، وكان لا يوجد أحد في المنزل سواي و«سيف»، وكنت أرتدي ملابس الميدان وأستقل سيارة جيب وليس السيارة العادية. كل هذا كان يؤكد لـ «سيف» أن مصر ستدخل حالة حرب.

وعن ما قبل المعركة بساعات يكتب: في يوم 5 أكتوبر أبلغني ابني «سيف»؛ أن حركة الطيران من وإلى مصر توقفت، وقد علم بذلك عندما ذهب إلى مطار القاهرة لاستقبال والدته العائدة من لندن وشقيقه الأكبر محمد أيضا العائد على طائرة ليبيا الساعة 8 مساء في اليوم نفسه، وانتظر شقيقه «محمد» فلم يأتِ، ووجد حالة من الهرج والمرج في المطار، ورغم هدوئي المعتاد غضبت بشدة واتصلت باللواء أحمد نوح، وكان وقتها وزيرا للطيران، وطلبت عودة الطيران المدني إلى حركته الطبيعية، وبالفعل عادت إلى طبيعتها مرة ثانية بعد ساعة.

بعد أن استدعيت «سيف»» لغرفتي مساء يوم 5 أكتوبر العام 1973 وقلت له: «وضعت خطابا في درج الشيفونيرة وغير مصرح لك بقراءته، إلا إذا حدث شيء لي، ولا بُد أن تعلم أن والدك كان مخلصا للبلد وفعل كل ما في استطاعته لخدمة الوطن»، ورد «سيف»: «حاضر»، وقلت: «أريد أن أستيقظ الساعة 9 صباحا»، فرد: «حاضر، أنا سأظل أذاكر حتى الصباح». وبالفعل لم ينم «سيف» لأنه من المفترض أن يذاكر لكنه لم يستطع التركيز، وعند صلاة الفجر وجدني مستيقظا أصلي الفجر، سعيدا.

كانت زوجتي قد سافرت للندن قبل الحرب بأسابيع للعلاج من ورم في يدها، وكنت أرفض فكرة السفر تحسبا لاندلاع الحرب دون أن أعلمها أسباب رفضي، وأمام إصرارها على السفر للعلاج وافقت بشرط أن تعود بمجرد إجراء العملية الجراحية. فسافرت ومعها ابنتانا «نيرمين ودينا»، وأجرت العملية، وفي اليوم التالي من إجراء العملية أبلغها مدير مكتبي بأنني مسافر في مأمورية وأطلب منها العودة لمصر، فقالت له إنها لن تتمكن من الخروج من المستشفى قبل يومين أو ثلاثة، فقال لها إنني أريد عودتها إلى مصر فورا.

وكان الرئيس أنور السادات هو الذي أرسل إليها مدير مكتبي؛ حيث كنت في مركز 10 استعدادا للحرب، وطلب منها مدير مكتبي أن تستعد للسفر إلى مصر في اليوم التالي.

وذهبت نيرمين إلى الفندق في لندن لتحضير أغراضهن، وظلت دينا مع والدتها في المستشفى، وحضر مدير المكتب ومعه الملحق العسكري في لندن، وتركت زوجتي المستشفى دون أن تخبر الطبيب المعالج لها، وتوجهت للمطار مع ابنتينا ومدير مكتبي والملحق العسكري، وبسبب توقف سفر الطائرات إلى مصر اضطرت إدارة المطار أن تحجز للمسافرين في فندق المطار، واصطحب مدير مكتبي زوجتي وابنتيّ للفندق مرة أخرى لأنه كان أكثر أمنًا.

وفي صباح اليوم الثاني؛ وجدتْ حرسا على باب غرفتها، وعندما سألتهم ماذا يفعلون أخبرها الملحق العسكري أن مصر دخلت الحرب مع إسرائيل، وكسبنا الحرب، واخترقنا خط بارليف، وكانت مفاجأة لها، فصلّت لله صلاة شكر وظلت تدعو للقوات المسلحة، وجاء إليها السفير كمال الدين رفعت، وقال لها إن لديه أوامر بالتحفظ عليها هي والبنتان في الفندق تحت الحراسة حتى يأتيه أمر بالسماح لهنَّ بالسفر لأنهم خائفون إذا علمت إسرائيل بوجودهن في لندن أن تتعرض حياتهن للخطر. وهو ما حدث، حتى نجحت في العودة لمصر مع البنات عن طريق السفر إلى ليبيا ومنها لمصر عبر الحدود الليبية.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي