الرأي اليوم / ساق البامبو ورأس مبدعها

1 يناير 1970 05:59 م
«كان من الصعب علي أن آلف وطنا جديدا. حاولت أن اختزل وطني على أشخاص احبهم فيه لكن الوطن في داخلهم خذلني»...

لن أتحدث عن رواية سعود السنعوسي، الشاب الكويتي المبدع التي حازت جائزة «بوكر»، فالتلميذ مهما بلغت جرأته يخشى السباحة في بحور الادباء الكبار ولو كانت اعمارهم صغيرة نسبيا وتجربتهم حديثة. وكيف لي أن أقيم عملاً راقياً وأنا لم أخرج بعد من دائرة الدهشة التي أسرتني متابعا ملاحقا هذا الرجل الذي اختار بذكاء عجيب صبيا نصف كويتي - نصف فيليبيني حجر أساس لروايته كي يسقط أحجار الأسوار التي رفعناها بيننا كبشر، وبيننا وبين جوهر الدين... مع شجاعة التركيز على «عقد» كويتية ننتقدها لكننا لا نتحرر منها.

ندع للأدباء الكبار تقييم الرواية، أما التلاميذ من أمثالنا فيكملون خطاهم على دروب الكويت راهنا ومستقبلا. سأقول لكم ما سيحدث في الأيام المقبلة. سيتم الاحتفاء بالسنعوسي وجائزته. ستكرمه نخب سياسية وثقافية وإعلامية. سيستقبله مسؤولون كبار ويشيدون بإبداعه ونيله الجائزة. وبعد انتهاء المراسم وقبل ان تختفي الابتسامات وينأى صوت الاشادات سيقرأ السنعوسي رواية النسيان، وتعود الحكومة الى انشغالاتها «العظيمة» المتركزة فقط على العلاقة مع أعضاء مجلس الأمة وكيفية كسب رضاهم أو عقد التسويات معهم لتمرير قانون من هنا أو مشروع من هناك، وسنغذي أرواحنا بنغمة الخلافات والتهديدات والأزمات بين المعارضة والسلطة.

تجاهل المسؤولون المبدعين من ابناء الكويت دائما. لم يتقاعسوا عن توفير البيئة الحاضنة لتفجير الطاقات والمواهب فحسب، بل على العكس من ذلك وفروا بيئة محاربة للطاقات وطاردة للمواهب. ترك المبدع الكويتي وحيدا يتلمس طريقه بجهوده المنفردة ومساعدة أصدقائه ومحبيه.

وجد مبدعون كويتيون كثر، وفي مجالات علمية وصحية ورياضية وأدبية وثقافية وغيرها، أنفسهم خارج الكويت اكثر مما وجدوا أنفسهم داخل الكويت، ولا نريد هنا ان ندخل في التفاصيل وهي كثيرة. ومن بقي منهم داخل ديرته حبا لها وأملا في التغيير فإنما وجد مبادرات خاصة تدعمه فيما هو يحفر الجبل بإبرة. وعندما تتسلط الاضواء الخارجية عليه نتيجة الانبهار بعمله تقيم السلطة حفلات فرح وتنتصب خيام التهنئة وتطبع شهادات التقدير وتخرج الدروع من خزائنها من اجل الصور التقليدية المرفقة بابتسامات.

الكويت التي كانت منارة الثقافة في المنطقة تعاملت السلطة مع مثقفيها وكأنهم أيتام. صحيح أن هناك جهات تهتم بهم لكن الأصح أن هذا الاهتمام يشبه تماما بعض تفاصيل رواية ساق البامبو. اهتمام الأهل المشوب بالخجل بولد أو بفكرة أو بكتاب أو بمنزل، اهتمام من يرفض الاهتمام بأي مشروع خارج السياق العام أو النظام العام أو نطاق الخوف الذي فرضه ظلاميون على السلطة من باب الأدب... وقلة الأدب. وكيف لمبدع لا يكفيه هواء الفضاء كله كي يحلق أن تحصره السلطة في غرفة و«تمن» عليه بكمية ضئيلة من الأوكسيجين وتقول له: ابدع واكتب وائتنا بجوائز؟

السنعوسي الذي رأى في روايته أن الأديان أعظم من معتنقيها، يقول بلسان بطله: «الحزن مادة عديمة اللون، غير مرئية، يفرزها شخص ما، تنتقل منه الى كل ما حوله، يرى تأثيرها على كل شيء تلامسه، ولا ترى. هكذا كانت الكويت في الأيام الاولى لوصولي، يفرز الناس أحزانهم، تتشربها الأرض والسماء والهواء... وكل شيء». لكن الكاتب نفسه تحدى بعمله الجميل ظلام الحزن واسعدنا واسعد بلده وأعاد إلينا شيئا من أمل بأن الخط الثالث والغالبية الصامتة النائية بنفسها عن لعبتي السلطة والمعارضة قادرة على قراءة الكويت بعين أخرى وكتابة الكويت بحبر مختلف.

عند القراءة «السياسية - الرقابية» تختصر «ساق البامبو» الكثير مما حاولنا شرحه عن الإساءة الى النظام العام أو المجتمع، ففي الرواية تشريح مخيف لكمية كبيرة من الأخطاء والخطايا التي صارت قاعدة في حياتنا اليومية ولم تعد استثناء، لكن الكاتب أظهرها كما هي بحثا عن صدمة إيجابية تعيدها استثناء لمصلحة القاعدة التي تختفي شيئا فشيئا. هو يحارب رموز هذه العقد والانحرافات التي تلفنا سواء ما يتعلق منها بتفسير الدين أو بالتقاليد الاجتماعية أو العملية السياسية، ويعري «النظام العام» من خلال «الآخر» الذي عاش معنا وكأنه يعيش بين جزر منعزلة تتفاوت في كل شيء بما في ذلك الأجواء المناخية. غدا سنجد من يقول إن الكاتب أساء الى الكويت وأن القانون يجب أن يطبق عليه بينما هو في الحقيقة ينتصر لـ«كويته» ويعيدها إلى الخريطة الأساسية التي لا تعترف بمجازر الرقابة على الكتب وخنق المعارض ودعاوى الحسبة التي يقيمها موتورون... باختصار، لا يرى الكاتب أي قوة أو رسالة للكويت خارج المعايير الإنسانية بحرياتها وحقوقها.

في الرواية يقول البطل: «من أين لي أن أقترب من الوطن وهو يملك وجوها عديدة... كلما اقتربتُ من أحدها أشاح بنظره بعيدا»، ونقول للسنعوسي أن يتابع المسير والاقتراب من وطن لابد أن يقترب منه ومن أمثاله، حتى لو أشاح بنظره بعيدا بسبب الرمد الذي نثروه في العيون. لا تأمل أن تقابل السلطة ما حققته للكويت بايلاء الثقافة والإبداع الاهتمام الذي تستحقه، ولا نريد ان تتدخل السلطة أساسا في عملكم بل إن تواكبه وتترك الريادة لكم وتزيل من طرقاتكم أطنان الأشواك التي زرعها أعداء الفرح والحرية والإبداع تحت مظلة السلطة نفسها.

يقول السنعوسي «لكن الوطن في داخلهم خذلني»، ونقول للسلطة إن لم تستطع رعاية التألق الكويتي فلتتوقف على الأقل عن رعاية أعدائه... وهذه أكبر خدمة تقدمها للمبدعين في مختلف الميادين.





جاسم بودي