No Script

قضية / هل تستطيع مواقع التواصل الاجتماعي كتابة التاريخ مستقبلاً؟

«الرواة... من التدوين إلى عصر الإنترنت»

u0645u0646 u0623u0639u0645u0627u0644 u0627u0644u0641u0646u0627u0646 u0627u0644u0643u0648u064au062au064a u0627u0644u0631u0627u062du0644 u062du0645u064au062f u062eu0632u0639u0644
من أعمال الفنان الكويتي الراحل حميد خزعل
تصغير
تكبير

حينما كانت المجتمعات الإنسانية تعيش خلف حدود دولها في عزلة تامة عن بعضها البعض، وليس ثمة وسائل مبهرة تنقل ما تمر به من أحداث كبيرة كانت أم صغيرة، خارج حدود تجمعاتها، سواء في دولها نفسها أو إلى دول أخرى بعيدة، كان لا بد من أن يكون هناك رواة يحملون هذا العبء الإنساني، هؤلاء الرواة الشفهيون أو المدونون، حاولوا بشكل أو بآخر أن تكون لديهم وسائلهم في نقل الأحداث، من خلال تسريبها إلى آخرين، ربما تسمح لهم الظروف بنقلها خارج الحدود، أو من خلال إعادة روايتها على الأسماع من أجل أن تكون أيقونة قد يحتفظ بها الزمن لأجل غير مسمى، هذه المتوالية الإنسانية لم تكن تمر من خلال منظومة محددة، بقدر ما كانت تحمل في مضامينها العشوائية وعدم الترتيب، وربما كانت هذه الأحداث تتعرض للتشويه، أو البتر، أو التزييف من خلال رواة آخرين أقل إنسانية، أكثر اقتراباً من محرك الأحداث التاريخية في اتجاه مصلحتهم، وقد يكون هذا المحرك السلطة الحاكمة، أو طبقة النبلاء والأغنياء، الذين لا يريدون لظلهم أن يكون متداولا على الألسنة، من أجل ألا تحدث ثورة أو تمرد من قبل المحكومين البسطاء، وكي لا يتفاعل مع هذه القصص المروية آخرون في مجتمعات أخرى، فيتهمون بالاستبداد.
هؤلاء الرواة الذين رصدهم لنا التاريخ ظهروا في أشكال مختلفة... شعراء وكُتاّب ومدونون ومؤرخون، وغيرهم، إلّا أن القليل جداً تمكن من أن يخرج خارج حدوده ليعرفه الآخرون في أماكنهم البعيدة، وهذا القليل لم يخل من التشويه والتزييف، ولم يعبر بشكل مطلق عن واقع الحال، بينما أسدل الزمن الستار نهائياً على أحداث مختلفة في أثرها وشدتها، ولم يعد لها أي ذكر في صفحات التاريخ.
فالصراعات الداخلية بين طوائف المجتمع الواحد نتج عنها جرائم بشعة وغير مبررة إنسانياً، ومع ذلك فما نقله الرواة والمؤرخون وصدروه للتاريخ لا يعادل ولو واحد في المئة مما حدث فعلياً، كما أن الحروب التي خاضتها مجتمعات ضد أخرى بغرض التوسع أو الهيمنة أو الإذلال، أو لأسباب تتعلق بمحاولة نشر معتقد ديني أو دنيوي، أو من أجل النهب وغيرها، جاءت لنا من نوافذ التاريخ مهلهلة، وغير راصدة للواقع على حقيقته.
الأمثلة كثيرة- في ما يخص ما نقله التاريخ- مثل الإبادة التي تعرض له الهنود الحمر في وطنهم الأصلي على أيدي غزاة جاءوا من أبعد البلاد ليستفيدوا من خيرات البلد البكر، كذلك ما أطلقت عليها الحروب الدينية من أجل نشر فكر ديني بعينه، وما نتج عنها من تدمير لمجتمعات كانت تعيش في أمان، لتتقوض مضاجعها، والكثير مما قرأناه في كتب التاريخ، وهي قراءة لم تكن بالحقيقة المطلقة، ولكنها جاءت مشوهة ومبتورة، لأن من يكتب التاريخ ليس المهزوم أو الضعيف الذي وقع عليه الظلم والقسوة، ولكنه القوي المنتصر الذي يريد وضع تبريرات مقنعة لأفعاله، ليس فقد في زمنه الراهن، ولكنه يريد تصدير هذه التبريرات إلى الأزمنة المتعاقبة.
 وحينما ظهر الإعلام بأنواعه وأشكاله، تبدلت المفاهيم، وبدأت الأحداث تأخذ أشكالاً مغايرة في نقلها، لترصد لنا تقارير المراسلين الإعلاميين المنتشرين في كل البلدان، ما يحدث على الجبهات البعيدة والقريبة على حد سواء، وبالتالي ظهرت انتهاكات وجرائم، لم يكن بمقدور الرواة الذين يتبعون القوي في تسجيلاتهم وتدويناتهم، من التزييف، ومن ثم بقيت هذه الأحداث موثقة، غير أن وسائل الإعلام - التي يتبع معظمها لجهات رسمية، أو لأشخاص لديهم أجنداتهم ومصالحهم، أصبحت قادرة على أن تزييف الحقائق من خلال البتر أو الانتقاء في نقل الأحداث، من خلال ما تحتاجه مصالحهم، وما تتطلبه اتجاهاتهم، لتفقد معظم هذه الوسائل الإعلامية مصداقيتها، وتظل علامات الاستفهام شاخصة في كل أو معظم ما ترصده من أحداث.
ومن خلال هذه الجدلية التي صنعتها المصالح المتعلقة بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، عادت الأمور إلى سابق عهدها، ولم تعد المسألة مختلفة عن الرواة قديما، فقد تغيب أحداث دامية، رغم عيون الإعلام المنتشرة في كل مكان، أو قد تظهر أحداثا أخرى غائبة، ولكن الذي يتحكم فيها المصلحة والمنفعة والانتماء والولاء وغير ذلك، في ما ظل البسطاء هم الوقود الذي تشتعل به هذه الملاحم والصراعات والنزاعات والحروب.
والآن ومع ما حظي به التدوين والتأريخ من وسيلة حديثة استطاعت أن تأخذ الألباب والأفكار إلى آفاق لم تكون متوقعة، يمكن القول ان الأمور تسير في طرق لا يمكن لنا أن نحدد مساراتها، هذه الوسيلة التي تمثلها «الإنترنت» وما تتضمنه من مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية والمدونات، والمواقع الشخصية، أصبحت معبأة بالأحداث التي ترصد الواقع رصداً مباشراً، بعضه قد يحالفه الصدق والآخر يتلون حسب ما تمليه الضمائر والمصالح، وباتت الصورة التي تنشر إلكترونيا، مضللة في بعضها وصادقة في البعض الآخر، وهي صورة واحدة، ولكن قراءة هذه الصورة، تختلف من مزاج إلى آخر، في ما ظل التلاعب في مضمون هذه الصورة من خلال ما يطلق عليه «الفوتو شوب»، محيراً.
ومن ثم وبعد مرور زمن قد يبعد أو يقصر على حدث ما شديد الوطأة على الإنسانية، مثل ما تتعرض له مجتمعاتنا العربية من محن وصراعات غير مبررة، هل لنا أن نستقي عناصر هذا الحدث ومستوياته من خلال الإنترنت، بينما وظيفة الراوي للأحداث التاريخية غائبة، والمحطات الفضائية، قد فقدت تأثيرها بفعل عدم المصداقية؟
هل لنا أن نفتش في صفحات رواد الإنترنت عن هذا الحدث بوصفه أوراقاً موثقة، و أدلة صادقة على ما شهده هذا العصر - الذي نفترض أنه أصبح غابرا وقديماً- هل يمكن للأجيال المقبلة أن تتعرف على تاريخ ما مضى من أحداث خلال التجول في الإنترنت، واستخدام «غوغل»، أو غيره من محركات البحث التي ستظهر في عصره، لكتابة تاريخ هذا الحدث؟
أظن أن المسألة تدخل في مرحلة الجدل الذي لا يتوقف على وجه الإطلاق، فما زالت عقدة الراوي القديم موجودة إلى هذا الوقت... الراوي الذي يكتب من منطلق فهمه وحده وبمزاجه وميوله وهواه وانتمائه، ومن خلال ما يراه في عيون المنتصر القوي، وما يستشرفه من مصالح.
بينما ظل وسيظل البسطاء - قديماً وحديثاً ومستقبلاً - هم المتضررون، الذين يدفعون الثمن، ويضحون بأمنهم ويعيشون التشرد والضياع، إلى أن تشرق شمس الضمير، في نفوس العالم.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي