No Script

الرأي اليوم / المقال الأخير

تصغير
تكبير
لا تستغرب أيها القارئ الكريم ما سأخطه هنا، فأنا، وبعد تفكير عميق، وعن قناعة ما بعدها قناعة وصلت إليها بالتجربة والخبرة والاستنتاج، أكتب هذا المقال لأقول إنني... لن أكتب بعد الآن.

نعم عزيزي القارئ، هأنا أعلن أنني اعتزلت الكتابة بعد نحو عشرين عاماً من اللقاء الأسبوعي بيني وبينك. لم أترك بيتي الإعلامي ولن أتركه، فما يربطني به أكبر من بريق المهنة وإغراءاتها وأخلاقياتها وتفاصيلها... ما يربطني به هو العشق الذي يزداد توهّجاً رغم كل المطبات والصعوبات.


اعتزلت اللعب ولن أعتزل الملعب أو الأرض أو المدرجات أو الفريق أو الجمهور، لكنني رغم كل العشق والحضور قررت أن أتوقف عن الكتابة من باب «اللهم إني بلغت اللهم فاشهد» وبعدما أديت واجبي الاجتهادي بكل رضى حتى وإن اعتبره البعض... تجاوزاً.

منذ نحو عشرين عاماً وأنا ألتقي بك عزيزي القارئ أسبوعياً. وأذكرك أنني في البدايات، وقبل عقدين، كتبت عن وجوب الفصل بين الحكم والتجارة، وعن ضرورة تهيئة مناخات لتطوير النظام في اتجاه الإمارة الدستورية وقيام أحزاب وطنية وانبثاق حكومة من رحم البرلمان. يومها تنوّعت ردود الفعل بين السخط والاستهجان والاستغراب وكنت وحيداً شبه متفرد في هذا الطرح. اليوم صار ذلك مطلب غالبية الكويتيين الحريصين على كسر حلقة الجمود... وبقدر ما أسعدني تعميم الفكرة واتساع القناعة بها بقدر ما يحزنني القول إن شيئاً منها لن يتحقق.

أعتزل الكتابة بعد مرحلة عايشت خلالها أربعة رؤساء حكومات، وأربعة رؤساء مجالس أمة، وعشرات الوزراء والنواب والمسؤولين، وحكومات متعددة ومجالس منتخبة وفق أنظمة مختلفة من الدوائر وعدد الأصوات. لم يكن ما يحركني ويدفعني إلى الكتابة سوى الهمّ الوطني رغم معرفتي بأن قلة كانت تربط ما أكتب إما بدخولي في محور مع طرف «كبير» وإما بمصلحة وإما مسايرة لتيار أو جهة وإما دفاعاً عن شخص أو مسؤول، وعندما اتضح لهذه القلة وبالتجربة وبالبرهان أنني كنت أكتب رأياً وأبدي وجهة نظر بمعزل عما قالوه أعمتهم الخيبة... والعاجز سلاحه الإسفاف دائماً.

عشرون عاماً لم تكن الأمور فيها على ما يرام مع رؤساء الحكومات وهم الإدارة التنفيذية للبلد. ألتقي معهم شخصياً فيبدأ العتاب واللوم ويفرغ الرئيس كل ما في جعبته من ظنون واجتهادات، وعندما أشرح ما كتبته وأبيّن مقاصده وأهدافه وأوضح أن السلطة الرابعة تعين على استكشاف مواطن الخلل أو على الأقل تشير إليها، تنتقل الهواجس من «الشخصي» إلى «العام» وألمس بصيص أمل بتغيير وإصلاح... ثم تعود الأمور إلى «الطريقة الكويتية»، بين تنافس سياسي وتضارب مصالح وصراعات على المناصب وسكاكين المستشارين وهمسات الوشاة، فنكتب مجدداً ونلام مجدداً ونعاتب مجدداً ونوضح مجدداً ونشرح مجدداً، وتبقى صداقتنا كبيرة على المستوى الشخصي كما يبقى الجمود والتراجع على المستوى العام، ومشكلة الكاتب ليست في الشأن الشخصي إنما في الهمّ الوطني.

وعندما أتحدث عن الحكومات ورؤسائها فليس من باب تحييد النواب، فربما كنت أكثر من كتب عن حضور كل شيء في مجالس الأمة باستثناء التشريع الحقيقي والرقابة المسؤولة، إنما الحكومات هي الجهات التنفيذية الملامة على التقصير سواء عقدت صفقات نيابية أو تصادمت مع نواب... ثم ألا يعني للكويتي شيئاً أننا ومنذ أكثر من عشرين عاماً ننادي بفصل السلطات وتفرّغ كل سلطة لواجباتها والتوقّف عن اعتبار الحكومة حزباً يواجه حزباً آخر اسمه المجلس؟

وكي أكون منصفاً بالنسبة إلى المسؤولين، أقول إن المشكلة ليست فيهم فقط ليصبح انتقادهم أو تشجيعهم فاعلاً ومؤثراً، المشكلة في النظام السياسي نفسه منذ ستينيات القرن الماضي. نظام معالمه الأساسية أنه... بلا «معالم أساسية»، فلا هو ديموقراطي بالكامل ولا آحادي بالمطلق. مجلس ينتخب بأسلوب فردي والنائب يعمل بشكل فردي ولا يمكن القول إنه يمثل الأمة جمعاء، وحكومة لا تنبثق من رحم المجلس وأحزاب غير موجودة، والموجود منها بلا ترخيص من لون واحد. كل سلطة همّها البقاء سواء بأسلوب المسايرة أو المواجهة فيما الحياة السياسية في دائرة الشلل.

وعلى مستويات أخرى، نجد أن الكويت وصلت درجة من انتهاك القانون والدستور والقيم والمبادئ لم تعرفها من قبل، ولم نكن نتخيّل ككويتيين أننا يمكن أن نعاصرها. المفبرك والشتّام والمفتري والبلطجي والمعتدي على الكرامات ومنتهك الحرمات، يمشي منتصب القامة ويستمر في غيّه وسفاهته وطيشه، والمحزن أن هناك من يعتبر فضائح هؤلاء «أخطاء» تنتهي باعتذار، أو «وجهة نظر»، أو ردّ فعل على عدم السماح باحتلالهم كل مواقع السلطة، وهذا الكلام بقدر ما يحزن بقدر ما يكرّس أن هناك من يعتبر البلد «عزبة» له فإما أن يخضع الجميع ويرضى بقوانينه وإما أن تخرب البلد... فلماذا يكتب من يكتب ويحذّر من يحذّر طالما أن صوت الأدب ضائع وسوط قلّة الأدب حاضر؟

وعلى جبهة الرافضين لأداء حكومي سيئ وقصور نيابي، تجد ساحة للمعارضة تتنافس فيها الكلمات والمصالح وتغيب المشاريع. وإذا كان من الصعب تصور بلدنا الكويت من دون معارضة فمن المستحيل تصور معارضة بلا مشروع، وعندما كتبت مراراً عن سبب غياب مشاريع، ثم عن سبب إعلان هذه المشاريع ودفنها في اليوم الثاني، وعندما تمنّيت ترشيد الخطاب المعارض في اتجاه أهداف وطنية جامعة من دون تجاوز للقانون والدستور وعدم دخول المعارضة لعبة أقطاب يتصارعون على السلطة... ووجهت بالتهم المعلبة الجاهزة في أدراج بعض من يعتبرون أنفسهم معارضين، خصوصاً أولئك الذين يمتلكون مختبرات لفحص الوطنية ويدّعون احتكار شهاداتها يوزّعونها على من يرغبون، فمنهم من يخرجك من وطنيتك ومنهم من يخرجك من دينك... وفي النهاية يخرج هو من احترام الناس له ويبقى بلا مشروع بعدما استمرأ لعب دور عود ثقاب يشعله آخر في الزمانين والمكانين اللذين يختارهما.

سيقال دعك من تقصير الحكومة والمجلس، ومن ضياع المعارضة، ومن فساد المفسدين وانتهاكات السفهاء، ومن سوء الإدارة وانسداد الآفاق أمام جيل الشباب، فالكويت دولة حريات وإعلام وتعدّدية وصحافة رائدة وجيل كبير ينخرط اليوم في التعبير عبر كل الوسائل خصوصاً التواصل الاجتماعي... وأغالب حزنا يكاد يحتل كل تفكيري وأنا أتابع حرية التعبير التي يتحدثون عنها. بصراحة، لا أنا ولا الجيل الذي سبقني ولا الذي سبقه عرفنا هذه اللغة الرديئة البذيئة المخالفة للذوق والأخلاق والقيم ولا أريد لأولادي وأولادهم هذا المستوى من «حرية التعبير».

تكتب اليوم عن قضية ما فتواجه بشتيمة، تعتقد أن من يشتم «جاهل» لم يتربَّ في بيت أو مدرسة فتكتشف أنه محامٍ أو أستاذ جامعي. تعتقد أنه يكرهك أو يكره خط الوسطية والاعتدال فتكتشف أنه «يناقش» بالشتائم نفسها مختلف المواضيع ومع مختلف الأشخاص بمن فيهم من كانوا حلفاء له. لم يعد هذا الفضاء المفتوح يضم سوى قلة أدركت الغاية منه فملأته بالجميل والمفيد والشيّق والسجالات المحترمة والنقاشات المسؤولة، أما الباقون فلا يعرفون للأسف آداب الخلاف والاختلاف والحوار والنقاش. طبعا هؤلاء يسري عليهم قول الشافعي: يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيباً، يزيد سفاهة فأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيباً... ومع ذلك فلا ديني ولا تربيتي ولا أخلاقي ولا شخصيتي تسمح لي بالرد، وأعترف أنني أعجز أساساً من أن أخوض سجالاً بهذا المستوى.

أعتزل الكتابة لأنني من جيل تربى على أبجديات وقيم، أهمها احترام الأكبر سناً وتوقيرهم والإنصات لهم وعدم التطاول عليهم حتى مع اختلاف وجهات النظر، واليوم نرى سفهاء بالكاد يعرفون الكتابة يعتقدون، وبمجرد أن أصبح لديهم حساب في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، أن التطاول على قامات من أمثال أحمد الخطيب وأحمد السعدون أمر مقبول.

عشرون عاماً وأنا أكتب ضد الطائفيّة والتعصّب والانغلاق والتطرف والمذهبية والعنصرية والفساد وسوء الإدارة وأخطاء الحكومة والمجلس والمعارضة. عشرون عاماً وأنا أتمنى فتح آفاق علمية وعملية للشباب قادة المستقبل، وفتح الأبواب للتطور والحداثة والمساواة واحترام القانون، ومحاسبة المتجاوزين وتكريس دولة المؤسسات... وأعترف أن النتيجة لا تساوي صفراً بل تحت الصفر بدرجات كون كل ما كتبت ضده زاد وكل ما تمنّيته تضاءل.

أخطأت طبعاً في بعض المواقف وجلّ من لا يخطئ، وأعتذر عن كل خطأ أو إساءة من دون قصد... وقلب المحبين كبير، لكنني أعتقد أنني أصبت كثيراً في قرار اعتزال الكتابة لأن اغتيال الأحلام برصاص الإحباط لا يماثله إلا موت الأفكار غرقاً في أحبار الفشل.

فشلت ككاتب. صحيح أنني اجتهدت لكن الحقيقة أنني فشلت في تحريك المياه الراكدة مهما ألقيت بها من أحجار. يبقى أن رأي «الراي» سيستمر بين فترة وأخرى ليعكس موقف الإخوة في إدارة الجريدة وليس بالضرورة موقفي الشخصي، فيما سأتفرغ لإعطاء وقت أكبر لمؤسسات المجموعة الإعلامية الأخرى إضافة إلى مشاريع جديدة نسعى لبلورتها وأيضاً في الإطار الإعلامي... قلت سابقاً إن الإعلام عشق وأنا رجل عاشق له.

... سامحونا.

جاسم مرزوق بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي