No Script

قراءة نقدية

«حي الدهشة» لمها حسن... رواية بأكثر من العنوان

تصغير
تكبير

أشارت القراءات التي تناولت الأعمال الروائية الصادرة عقب أحداث 2011 إلى تماثل واضح في ثيمات وبنيات تلك النصوص وتبديات ذلك الحدث في تركيبتها. كما أنَّ معظم الروائيين كانوا يمتحون من منجم ذكرياتهم الشخصية وهذا ما أضفى طابعاً ذاتياً على ما يقدمونه ولعلَّ هذه السمة غالبةُ أكثر في الروايات التي قاربت الواقع السوري إذ يتوخى مؤلفوها استعادة صورة مدينتهم قبل وقوع الدمار والكوارث وكان التقابل بين زمنين قائما في تضاعيف تلك الروايات.
زمن الحرب وماقبلها... وما ألفته الكاتبة والروائية مها حسن حيثُ تفاعلت مع مصير مدينتها في ظل الحرب بحساسية شديدة وتنعكسُ مأساةُ الدمار في حيثيات سردياتها الروائية مدونة مطبوعة بخصائص المرحلة. إذ تحولتْ الكتابة لدى صاحبة (الروايات) إلى طقس للتذكر كأنها مُقتنعة بما قاله نيتشة بأن الإنسان لا يتحرر من دون التذَكُر. فعلاً هي تريدُ التحرر من بؤس ما تعيشه مدينتها وتَبَرُحِ آلام الفقدان من خلال فعل الكتابة، تتراوح أحداث روايتها (مترو حلب) بين باريس ومدينة المنشأ مع إيراد تفاصيل الظروف التي غادرت فيها البطلة (سارة) «هي وجه آخر للذات الكاتبة» بلدها لتقيم عند خالتها في باريس وتبعت (عمتِ صباحا أيتها الحرب) العنوان السابق مع مزيد من التوغل في الذاتية والدفع بتداعيات الحرب على الأسرة إلى الواجهة حيث تبعثر أفرادها في الشتات، ومن يبقى مِنْهُم لا يكونُ مصيره إلا الموت أو الاختطاف ما يعني أنَّ النص الروائي مندمج في تفاصيل واقعية مع الإحالة إلى المواد الخبرية المتداولة في وسائط مُتعددة.
ترسمُ صاحبةُ (تراتيل العدم) إستراتيجية مُغايرة في عملها المعنون «حي الدهشة» الصادر حديثاً بطبعة مشتركة من «دار ممدوح عدوان ودار سرد» إذ تعيدُ بناء جغرافية مكان واقع في مدينة حلب (حي الهلك) إذ يطالعك في مُقَدِمة الرواية مقتبسُ يُحيلك إلى الجذور التأريخية لتسمية الحي.
علماً أن المكان الروائي مهما كان مُطابقاً لصورة الواقع يخضعُ لخصائص الكلمة التصويرية فالكلمة كما تقول الناقدة سيزا قاسم لا تنقلُ عالم الواقع بل تُشيرُ إليه.
وإنَّ ما يجعلُ الزمان والمكان واضحين ويمكن معاينتهما في حالة حركية هو الاهتمام بالشخصية والحدث وذكر عبدالله إبراهيم هذا الترابط بين تلك العناصر في كتابه (المتخيل السردي).

مناورة سردية
لا تتابع الوحدات السردية في «حي الدهشة» خطاً مستوياً تنبسطُ عليه المادة دون الالتواءات الزمنية بل تُفضل الكاتبة مناورة القارئ بإرجاء نهايات القصص التي تتوالد في سياق العمل فإنَّ ما تضمه الوحدة الأولى من قصة عبدالغني وسميرة قد يتوهمُ القارئ بأنَّ مع موت الزوجة تُقفل وتنسحبُ عنها الأضواء لكن هناك شخصية الابن الذي شهد ماعاشته سميرة من الإحباط والخيبة عندما شكَّ الزوج بصدق حبها. فإنَّ وجودهُ يشدُ مفاصلُ الرواية إلى بعضها البعض ويزدُ البنية أكثر تماسكاً وذلك حين يغادر دوره البسيط ولن يعودَ هامشاً لصاحب عمله شريف الحداد بل يصبحُ حسينُ في المقاطع الأخيرة مُحركاً رئيسياً في المنظومة السردية.
ويتورطُ في عملية قتل شريف متواطئاً مع سعاد التي أغرم بها منذ كان طفلاً... إذاً يستمدُ النصُ تشويقه من هذه التنقلات ما يعني تحويل انتباه المتلقي على امتداد زمن القراءة من شخصية إلى أخرى إذ مع توالت الأحداث يتضحُ أن شخصية مديحة التي تستبطن الساردة ما تعتمل في أعماقها من الغيرة والحقد على الدكتورة هند العائدة من لندن لأنَّ الأخيرة تستأثر باهتمام زوجها شريف وتتحين الفرصة للانتقام منها وقعت في شرك التمويه لأنَّ غريمتها لم تكن إلا سعاد التي وقع شريف في أحابيل مكرها وفتنتها.
إلى جانب كل ذلك، تتواردُ قصص أخرى تعودُ إلى خارج زمن الرواية ويتمُ توظيف تقنية الاسترجاع لحياكتها في متن النص، إذ يُسندُ دور الراوية إلى هند في فقرات ذات طابع مونولوجي تستعيدُ جانباً ظروفها الحياتية قبل انفصال والديها كما أنَّ طيف شخصية ميمد يحوم في طيات أيامها وما حجبته تجربتها مع قصي ولا الأيام التي مضتها برفقة وليام وعندما يخذلها شريف ويضاعف مرارتها تتوسل بصديق الطفولة وتستعيده من جديد.
إضافة إلى ذلك فإن شخصية زلوخ المرأة التي تعرفت هند من خلالها على حي الهلك تكتسبُ وظيفة مُساندة في الإبانة عن طبيعة الحياة في المكان الذي يؤطر الشخصيات التي يحفلُ بها النصُ ويتحول إلى حاضنة لأحداث مثيرة بدءاً من فتح الدكتورة هند لعيادتها مروراً بمقتل شريف في مشهد درامي وليس انتهاءً بهروب حسين بصحبة سعاد بعدما يتقلُ والده في بيروت.

ثيمات مُبهرة
للوهلة الأولى تبدو محتويات هذه الرواية بسيطةً بثيماتها التي قد لا تخلو منها الأعمال الروائية الأخرى مثل الحُب بين أبناء ديانتين والخيانة والغيرة والحنين لكن ما يعطي مستويات جديدة لهذه الثيمات هو طريقة المُعالجة طبقاً لخريطة سردية مُتماسكة هذا فضلاً عن الشخصيات الفاعلة في التعبير عن حالتها الوجدانية والانفعالات الداخلية الأمر الذي تراه أكثر وضوحاً في شخصية مديحة التي لا تكف عن تخيل سيناريوهات غرامية بين هند وشريف وتنهشها الغيرة من المرأة الدخيلة على حياتها.
كما تترصد الراوي كلي العلم نمو الحب لدى هند وازدياد رغبتها في الإنجاب من شريف غير أن ما تلتقطه من الإشارات وما ترد من الومضات تكشف عن شخصية أكثر تأثيراً وهي من الشخصيات تًسمى بسلبية تقلب شغف هند بشريف إلى الكراهية وتدفع إلى علاقات بُعد بين الشخصيات بعدما تتفق مع حسين لاستدراج شريف المُتحمس للتذوق من مفاتنها ولا يصلُ الأمر إلى هذا الحد من التوتر الدرامي دون مشاركة حسين الذي ما أن يقع نظره على هند المنكسرة والمتعذبة بحب شريف حتى تتداعى إلى ذهنه صورة الأم المُحطمة ما بدل حبه لمعلمه إلى الحقد ورأى فيه شخصية الأب القاسي ما يعمق عنده العٌقدة الأودبية وينقلب ضده.
هكذا تتشابك الأحداث في لوحة الرواية وتتباين أدوار الشخصيات في تزخيم حركة السرد فدرية لا تتجاوز صورة الأم النمطية ولا تحيد بعض شخصيات أخرى أيضاً عن قوالب مُحددة.
ولا تنتهي الرواية قبل إيراد التمليحات إلى الأزمة السورية ومغادرة درية الحفيدة برفقة الدكتورة هند إلى بريطانيا.
كأنَّ الكاتبة أرادت بذلك أن يكون النص أقل ذاتيةً بخلاف بطلة رواياتها الأخرى التي تنتهي بها الرحلة إلى باريس.
يُذكر أن الكاتبة وفقت في استخدام المحكية السورية من دون الإسراف وبذلك يكون مناخ الرواية مُطعماً بخصوصيات الحي الشعبي وحميميته.
بقي أنْ نشير إلى أن «حي الدهشة» تتفاعل مع الأعمال الروائية العالمية والعربية وتتصدر عناوينُ تلك الأعمال استهلاليةَ وحداتها مع الأخذ بالاعتبار تناسق كل عنوان مع مضمون الوحدة... أضف إلى ذلك ما يؤهل هذه الرواية لتحويلها إلى عمل تلفزيوني أو سينمائي كون النص ضاماً لمقومات تمده بالحركية.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي