No Script

خواطر صعلوك

الرسالة 301 في الغباء!

تصغير
تكبير

يقول مؤلف كتاب «مدح الغباء» الهولندي إيرازموس «إن الناس يستدعون الغباء دائماً ويشعرون مع كل خطوة بأثره اللطيف، ولكن على الرغم من ذلك وخلال القرون الماضية لم يقم أحد وبكلمات محترمة بإظهار المدح للغباء». هذا ما قرأته أثناء تصفح كتاب «هروبي إلى الحرية» لعلي بيجوفتش، وهو كتاب بشكل أو بآخر يأخذنا لمساحات كثيرة تظهر لنا الغباء الحضاري عبر رحلة حرية كتبت في سجن!
وأعتقد عزيزي القارئ الهمام يا من تشكو الزحام وسرقة اللئام أنك لا تحتاج إلى خيال كبير لفهم الاقتباس السابق من كتاب إيرازموس الذي لم أقرأه ووجدته في كتاب تصفحته، كل ما هو مطلوب منك أن تنظر حولك لتكتشف الحضور الطاغي للغباء في حياتنا، وكيف أننا نحتاج فعلا إلى أن نثمن دوره ونحاول فهم آلياته.
وسؤال واستغراب إيرازموس الذي كتب هذا الكتاب منذ مئات السنين له مبرراته، وهو كيف لم يلتفت أحد لطيبة ولطافة الغباء الذي لا ينفك عن إطاعة أوامرنا في كل مرة نستدعيه أو نطلب منه أن يكون حاضراً في مشاريعنا المستقبلية وخططنا السياسية على المستوى الإقليمي وخططنا الإصلاحية على المستوى المحلي وعن أولوياتنا على المستوى الشخصي... فمثلا أليس من الغباء أن نعتقد أننا كعرب وكمسلمين لسنا ترساً صغيراً في آلة العولمة الإعلامية والعسكرية والاقتصادية، والتي جعلتنا كأفراد ودول نعتقد أننا نسير إلى الامام بينما في الحقيقة أننا مدفوعون من الخلف!


هل كنت تعتقد عزيزي القارئ أنني كنت سأضرب لك مثلاً واضحاً تقرأه وتريح نفسك من رصد لحظات الحضور الطاغي للغباء بيننا؟ لا يا عزيزي فأنت أيضاً لا تحتاج إلى مقال مثل هذا لكي يوضح لك ما هو واضح أصلاً، لنسقط معاً في فخ ضرب الأمثلة المكررة التي أصبحت معلومة من الحياة بالضرورة، ولقد طلبت منك من قبل أن تنظر حولك!
ولكن رغم ذلك فيبدو أن هناك كاتباً معاصراً التفت إلى ندائك وندائي ونداء إيرازموس في ضرورة مدح الغباء والثناء عليه من خلال مثال واضح وصريح يبين لنا كيف يقاتل أناس في معارك ليست معاركهم تحت قيادة تتركهم لمصيرهم على أرض يجهلون طبيعتها في زمن كانت بريطانيا تلعب فيه بالأمس دور أميركا اليوم.
فالمؤلِّف إريك دورشميت في كتابه «دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ» يقدم صورة في مدح الغباء عبر إظهار فوائده التي يجنيها الطرف الآخر دائماً، ويذهب إلى أن الغباء كان عاملاً رئيسياً لتغيير مجرى معارك وأحداث، وفي هذا الكتاب يأخذك في رحلة تاريخية للغباء الذي تواجد في قصور الرؤية الإستراتيجية، وقرارات فردية هوجاء وسوء تقدير، وهو ما لعب دوراً حاسماً في تغيير مسار معارك مهمة ونقاط فاصلة في التاريخ، وأحيانا كان الكتاب يعيد مشهداً تاريخياً آخر في أماكن مختلفة بخطوات الغباء نفسها ودقتها.
فأحد الأمثلة أن المؤلف يذكر مشهداً لهنود كانوا يخدمون في الجيش البريطاني وهم يتركون أسلحتهم في إحدى المعارك، ويهربون كوليد خرج للتو من بطن أمه حيث إنهم كانوا يشيرون بأيديهم في كل اتجاه، تاركين ساحة القتال في مدينة تانغا الأفريقية.
وسبب هذا الهروب الفضائحي هو أنه انطلقت أسراب غاضبة من النحل تجاه البنادق التي أزعجتهم في المنطقة، ومن عجائب الغباء أنه تم منح وسام الشجاعة لأحد الجنود، ليس لأنه قاتل ببسالة في أرض معركة من الغباء أن يخوضوا فيها حرباً، وهم لا يعرفون مثلا أنها منطقة مليئة بالنحل القارص، ولم ينل وسام الشجاعة لأنه حاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، ولكنه حصل على الوسام لأنه تعرض لـ 300 لسعة، ومع ذلك استمر في إرسال برقياته لقائده يخبره فيها باللهجة المصرية «يا نحلة لا تقرصيني... ولا عاوز عسل منك»!
ومن الغباء أن أعتقد أن مقالاً مثل هذا قد حوى أي معلومة مفيدة في الحياة، كل ما أرجوه منك أن تعتبره الرسالة رقم 301 التي أرسلها الجندي الحاصل على وسام الشجاعة في الغباء!
لأنه من الغباء فعلا أن تكتب عن الغباء في زمن مثل هذا، وفي أوضاع مثل هذه حيث ضياع القدس كانت قنبلة زرعتها بريطانيا... وفجرتها أميركا، وما بين الـ 100 عام خاض الجميع معارك كان حاصل مجموعها اليوم هو ضياع القدس.
ربما تعود في الغد أو يتراجع الرئيس عن قراره، وربما تستمر 60 عاماً أخرى، ولكن هذا لا يعني إطلاقاً أننا نحتاج من فترة إلى أخرى من يذكرنا إلى أي درجة وصل بنا الغباء!

كاتب كويتي
moh1alatwan@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي