No Script

رؤى ثقافية / حاملو اللواء الإسرائيلي من العرب!

تصغير
تكبير
على الرغم من أن (إبراهيم الخليل) خرج من أرض كنعان إلى مِصْر بسبب المجاعة، وكذلك خرج (يعقوب) وأولاده بسبب المجاعة، فقد صارت أرض كنعان فجأة أرضًا تفيض لبنًا وعسلًا، حسب «العهد القديم»، حينما اضطُروا إلى مغادرة مِصْر قافلين من حيث أَتوا: «فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ، وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ، إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً، إِلَى مَكَانِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزَّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ.»(1)

من أجل هذا كانت اللُّعبة السياسيَّة تبدو فاغرةً فاها دائمًا، وَفْق «العهد القديم»، في علاقة العبرانيِّين القدماء بأرض (فلسطين) قبل ثلاثة آلاف عام. غير أنَّها تتعرَّى تمامًا في العصر الحديث بصورةٍ أشدَّ قبحًا وسماجةً وتدجيلًا؛ وقد فقدتْ كلَّ أوراق التوت من المشروعيَّات المدَّعاة، بما في ذلك المشروعيَّة الأُسطوريَّة العنصريَّة العتيقة، التي جُعِل الربُّ من خلالها «محرِّج» عقارات لـ(بني إسرائيل)، أو وزير شؤون بلديَّة، ينتزع ملكيَّات الأراضي من الشعوب كي يوزِّعها مِنَحًا إلاهيَّة مجَّانيَّة بين أبنائه وأحبائه وشَعبه المختار! ذلك أن يهود اليوم لم يعودوا قوميَّةً، ولا شَعبًا واحدًا من الشعوب- فضلًا عن أن يكونوا «شَعب الله المختار»!- ولا يربطهم تاريخٌ ثقافيٌّ واحد، بل هم شراذم من شتَّى الأُمم والأصقاع، جمعتْهم خرافةٌ، صيَّروها دِينًا سياسيًّا.

هذا التراث الأُسطوري، الذي أُدلِج وجُعِل دِينًا سياسيًّا، يأتي اليوم بعض أبطال التأليف التاريخي من العرب المعاصرين ليجعلوه أيضًا تاريخًا موثوقًا، يُعمِلون عبقريَّاتهم في انتحال تفاصيله الجغرافيَّة، فإنْ لم يجدوها في بلاد (الشام)، ألَّفوها من عند أنفسهم في (اليَمَن)، أو في جنوب الجزيرة العربيَّة، أو في (الحجاز)، متطوِّعين باختلاقها لـ(بني إسرائيل)، ولمُنتحلي مِلَّتهم إلى يوم الدِّين. ومن هؤلاء المؤلِّفين ثالث الأثافي الذي نحن بصدده.

-2 لن تجد في كتاب «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير» جديدًا. ومن الغريب تأليف كتابٍ لا يحمل سِوَى تكرارٍ لما سبق في كُتبٍ أخرى لآخَرين! في الوقت الذي يُفاخر مؤلِّفه قائلًا: «عملي هو الأوّل في هذا المجال»!(2) مع أنه لم يَعْدُ نقل آراء (كمال الصليبي)، لتأكيدها، ولعرض أسماء المواضع في جداول طويلة جِدًّا، يُشار في أحد حقولها إلى اسم المكان التوراتي، وفي الآخر إلى تفسيره التوراتي، وفي الثالث إلى تفسير المؤلِّف. وتفسير المؤلِّف هذا عَرْضُ احتمالاتٍ عشوائيّةٍ كثيرةٍ بلا حدود، يَحتمل فيه أنَّ المقصود قد يكون هذا المكان أو هذا المكان أو ذاك المكان. وهي احتمالاتٌ لا رابط بينها أكثر من تشابُهٍ بعض الحروف في الأسماء؛ بلا تعليل لتلك الاحتمالات، ولا ترجيح بينها، ولا استناد إلى معلومة، ولا على دليلٍ أو منطقٍ وراء سرد «تفسيرات المؤلِّف». والتفسير عِلْم، حتى في مستوى التأويل، لا يُلقَى على عواهنه اعتباطًا، وفي تَعَدُّدٍ من الاحتمالات، لا تُبقي رؤيةً ولا رأيًا محدَّدًا.

ولقد كان (الصليبي) يُزجي وراء اقتراحاته التأويليَّة بعض القرائن من معلوماتٍ أو أحداث، على الأقل، مهما تكن نِسبة إقناعها أو دِقَّتها أو صِحَّتها. أمّا (زياد منى)، فلا يعنيه شيءٌ من ذلك! كما لا يعنيه توثيق ما يَذكر من معلومات، بل هو غالبًا يُرسلها هكذا إرسالًا، كأنَّه مرجعها الأوَّل والأخير؛ فلا حواشي، ولا إحالات إلى مَراجِع، سوى الكتاب المقدَّس، وما عداه، فقد جَعل نفسَه هو «ابنَ بجدتها»، إذا قال، فصدِّقوه! ولذا تراه ينسب في مَتنه إلى هذا المستشرق، أو إلى ذلك الإغريقي، أو حتى إلى مَن يدعوهم «أهل الاختصاص»، هكذا دونما توثيق. مكتفيًا في نهاية الكتاب بسرد بِضعة مراجع تقليديَّة عامَّة، من ضِمنها- طبعًا- «المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السُّعوديَّة». وعجيبٌ أن يُحمل ادِّعاء ذلك الكتاب العريض على خواء من المرجعيَّات التوثيقيَّة المكافئة عِلْميًّا لدعواه. متسلِّحًا- عِوض تقديم البيِّنات على ما يزعم- بعبارة «لا شكَّ»، كما كان أستاذه الصليبي من قَبل يأتي مدَجَّجًا بـ«لا بُدَّ»! فلا تدري هنا لِـمَ «لا شكَّ»، كما لم تكن تدري هناك لِـمَ «لا بُدَّ»؟!(3) أهو اختلال المنهاج، أم عدم رجوع المؤلِّف إلى ما يشير إليه من معلوماتٍ في مظانِّها، أم الهرب من المسؤوليَّة العِلْميَّة أمام القارئ المدقِّق؟ أيًّا ما يكن السبب، فإنه مسلكٌ يَصِم الكتاب بالضحالة العِلْميَّة، منتهيًا به إلى ما يُشبِه الصَّدى عن كُتب (الصليبي)، أو التعليق عليها، وجدولة معلوماتها، لا أكثر.

وواضحٌ هوسُ (منى) بـ(الصليبي) وبكُتبه، وتغنِّيه بهما، ونقله عنهما، من خلال كتابه هذا وغيره. ولا غرو، فقد جاء حول مسيرته في ميدان البحث التاريخي أنَّه لم يكن له شأنٌ بالتاريخ أصلًا قبل انخطافه بأخرة بكتاب الصليبي الأوَّل الذي أُهدي إليه، فأثار شجونه. لأن تخصّص الرجل في (إدارة الأعمال) وفي (الفلسفة)، لكنه بعد أن أهداه أحد الأصدقاء كتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، تنفَّس الصعداء، قائلًا: «بيدي لا بيد كمال»! فاستعان بـ(عرفان شاهين)، الأستاذ في جامعة (جورج تاون)، الذي قال له بأمانة: «إنَّ كلَّ شيءٍ يمكن أن تكتبه أو تبحث فيه موجودٌ في مؤلَّفات الطبري»!(4) فلم يقنعه ذلك البرود العِلْمي، فاقتحم بحر التاريخ، وقرَّر أن يُدير أعمالًا من نوعٍ آخر.

ربما قال قائل: إن السبب العاطفي السياسي فاضحٌ وراء تأليف (منى) لهذا الكتاب في التاريخ، كما كان السبب الإديولوجي القومي صارخًا وراء تأليف (أحمد داوود) كتابه «العَرَب والساميُّون والعِبرانيُّون وبنو إسرائيل واليهود»، وكما بدت مريبةً الأسباب العقديَّة وراء كُتب (الصليبي) المتعدِّدة، التي ناقشناها من قبل. إنها العواطف الإديولوجيَّة، سياسيَّةً، أو قوميَّةً، أو طائفيَّة. غير أنَّه لا يعنينا الدخول في العواطف والنوايا، ولا وراء الخلفيَّات الذهنيَّة والمعرفيَّة لتأليف تلك الكتب، بل حسبنا ما تشهد به الكتب نفسها على نفسها، من أنَّها لم تؤلَّف لوجه البحث ولا في سبيل العِلْم والتاريخ، وإنما لأغراض أخرى. وآيات ذلك طافحةٌ على صفحات تلك الكتب، متبدِّيةً في الاندفاع غير العِلْمي، وغير المنهاجي، بل غير المتلبِّث لاستقاء المعلومات الصحيحة. ومن ثَمَّ الضرب عُرض الحائط بكلِّ ما ناقض الهوى، أو عارض النتائج المبتغاة المبيَّتة قبل البحث. وهي أدواءٌ عصفت بأعمال الثلاثة بلا استثناء، تقوَى هنا أو تضعف هناك، بَيْدَ أنها ما انفكَّت آخذةً بتلابيبهم. [وللحديث بقيَّة]

* شاعر وناقد وعضو مجلس الشورى السعودي وأستاذ النقد الأدبي الحديث في جامعة الملك سعود في الرياض

p.alfaify@gmail.com

http://khayma.com/faify

(1) سِفر الخروج، 3: 8.

(2) مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)، 205.

(3) مثال ذلك قوله بكلِّ بساطة: إن قبيلة حجازيَّة اسمها «الفراعنة»: «لا شكَّ أنها من أحفاد فراعنة إقليم مِصْر»!

(4) انظر: جريدة «البيان» الإماراتيَّة، 21 أغسطس 2011، على شبكة «الإنترنت»:

http://www.albayan.ae/paths/art/2011-08-21-1.1490626
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي