No Script

خواطر صعلوك

إرث الحكاية ... صفحة سداد مفتوحة!

تصغير
تكبير

عندما كنت صغيراً - في عمر وردة ذاب عنها الثلج للتو - دخلت البقالة الوحيدة في المكان الذي أسكنه لكي أسرق قطعة حلوى كان معي ثمنها في جيبي، ولكنها التجربة الأولى للأشياء وللأطفال... فخرجت من البقالة بالحلوى والثمن... وإرث الحكاية.
كان آخر شخص في مخيلتي من الممكن أن يربكني ويعلمني هو «فيروز» راعي البقالة الإيراني، الذي كان يجيد الكتابة بالعربية في دفتر مهترئ، مكتوب على غلافه الخارجي «الحساب»، وهو عبارة عن دفتر فيه دين أهالي الحي طوال الشهر، حتى نزول المعاشات... وعندما كنت ألمح اسم أمي مكتوب أقوله له:
- أطوي هذه الصفحة من الدفتر لكي لا يراها الزبائن أثناء مراجعتك الحساب معهم، لا أريد لأحد أن يعرف أننا نشتري بالدين.


ينظر لي ويصمت لبرهة... يبتسم قائلاً:
- لا تطوى صفحة إلا بعد السداد!
أنفجر غيظاً... وأخرج عازماً على الاستعانة بـ«سوبر مان»، لكي أحطم البقالة على رأس فيروز يوماً ما.
ويوماً ما - عندما سرقت - لم يخطر ببالي أن «فيروز» لمحني، خصوصاً وأنه ظل مبتسماً كعادته، وعند خروجي قال لي:
- أحد الأطفال في الحي يأتي كل يوم ويسرق مني الحلوى، إنني أشاهده عبر المرايا المثبتة هنا... انظر، إنه طفل جيد وأنا لا أريد أن أخبر أباه، في رأيك ماذا يمكن أن أفعل معه؟
تصببت عرقاً... ورفعت حاجبيي حتى كاد أحدهما أن يلامس السقف، وانصرفت وأنا أفكر في سؤاله، وهل رآني أم أنها مصادفة كونية من تلك التي لا توجد حتى في نظرية الاحتمالات؟
في الصباح وضعت الحلوى المسروقة مكانها، وقدمت له ثلاثة حلول لم يكن من بينها حله.
لم أسرق منه شيئاً بعدها... واكتفيت بالتجربة الأولى، وما تبقى هو دين الحكاية وإرثها.
ثم كبرت وأصبحت معلماً ورئيس قسم «أد الدنيا»، براتب ثابت وثلاث علاوت وبدل إيجار، ولم تعد الأمهات والآباء يشترون شيئاً بالدين من البقالات، ولكنهم أصبحوا يقترضون من البنوك، كل ما هنالك أنه تغيّر في شكل الدائن!
عزيزي فيروز...
ذات يوم شاهدت خمسة طلاب يدخنون... قلت لهم ما قلته لي، إنكم أطفال جيدون وأنا لا أريد أن أخبر أباءكم، في رأيكم كيف يمكن لنا أن نقوم بمبادرة في المدرسة لكي ننبه الأقران بضرر التدخين؟
هل تصدق يا فيروز أن حواجبهم ارتفعت، حتى كادت تلامس سقف المقصف المدرسي!
في الصباح الباكر قاموا بتوزيع 70 تفاحة أمام باب المدرسة لأولياء الأمور، وكتبوا رسالة عن أضرار التدخين، ومشهد تمثيلي في طابور الصباح، ورغبة ملحة لكي يذهبوا للمخفر للإبلاغ عن البقالات والمراكز التي كانت تبيع لهم ولمن دون 18 سنة، هل تتخيل يا صديقي إلى أين وصل بهم إرث الحكاية التي خرجت بها من بقالتك بدلا من الحلوى؟!
هكذا يا فيروز... أنساك كأنك لم تكن يوما، ثم تتفجر في وجهي بقولك:
- لا تطوى صفحة إلا بعد السداد!
وتتساءل الروح عن عدد صفحات السداد التي ما زالت مفتوحة؟
عزيزي القارئ ربما أعطيت الحكاية سيرة شخصية، ولكن صدقني أنت أيضاً تحمل إرثا من الحكايات بشكل أو بآخر، سواء شعرت بذلك أم لم تشعر، فعالمك لا يتكون من الذرات الفيزيائية بل هو عالم من الحكايات الإنسانية، والإنسان لا يتميز عن الحيوان بكونه حكاء يجيد المفردات، بل بقدر ما هو صامت محمل بإرث من الحكايات... فتنكشف له اللغة.

@moh1alatwan

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي