No Script

عبدالله المبارك... غائب لا يغيب

تصغير
تكبير

تمرّ ذكراك يا أبي... وما أطيبها من ذكرى، رغم ما تحمله من نفحات حزن ولوعات فقد!
هي ككل الذكريات الأثيرة؛ ذكرى تهبُّ لمن غاب ومازال حاضراً بيننا في كل يوم... نسمع صوته ونرى بصماته في جميع أنحاء الكويت، كما نستعيد وصاياه... ونفخر بإنجازاته.
27 عاماً يا أبي تحوّل فيها طعم الفراق المرّ... إلى وقود حياة، وتحولت كلماتك إلى منهج عمل، وأصبحت قانون أخلاق.


في ذلك اليوم، بعد أربعة أشهر على تحرير الكويت من براثن احتلال بغيض... فاضت روحك إلى بارئها... بعدما اطمأن قلبك إلى عودة الحق إلى أصحابه... كان الفراق في يوم جمعة، وها هي الذكرى تعود في اليوم ذاته، تحمل فأل الختام الحسن.
يومها يا أبي، أيقنتَ أنت أن الزمن ليس هو زمنكم الذي عرفتموه... وأن المبادئ التي آمنت بها وقاتلت من أجلها لم تعد بأمان... فالعروبة لم تعد ملاذاً للمفاخرين بها، والجيرة لم تعد بمأمن من الغدر المفاجئ... والوجوه لم تعد هي الوجوه.
هيبة القرار وهيبة الوقار... وهيبة «البشت» التي كانت سمة من سماتك... لفحتها رياح التغيُّر في هذا الزمن الذي اختلطت فيه الأصوات، فرأينا وجوهاً مستعارة، وأصواتاً مستعارة، وآراء مستعارة يقولها أشخاص لا تعنيهم، ويصمت عنها أشخاص تعنيهم.
إننا نعيش الأعوام الأخيرة بما تحويه من تأثيرات خارجية وضغوط دولية واستحقاقات وإملاءات تعامل معها صاحب السمو أمير البلاد - حفظه الله ورعاه - بحكمته المعهودة التي نالت إعجاب الشعوب، وبإنسانيته التي تولى قيادتها على مستوى العالم.
وتشهد المنطقة من حولنا مشكلات طائفية لا يقبلها إنسان يريد الكرامة وحماية الدين وصيانة الشرع وحماية السنّة وينشد نمو أمته وتطويرها في طريق الخير.
تلك الاضطرابات كانت برعاية وحضور دول عظمى جعلت منطقتنا ميداناً لها، وقد فرضت فيها أجندتها وآراءها في حضور لافت يسعى إلى إعادة صياغة شكل الأمة وهويتها وتوجهات أبنائنا ومستقبلهم وإرباك الإحساس بالأمن والطمأنينة.
ومع كل هذا، فإن الكويت استطاعت أن تتعامل بمرونة وحكمة مع كل هذه التغيرات بحكمة قائدها وبما تعيشه من تنوع فكري حققته بصفتها دولة مؤسسات، وذلك بفضل من الله ثم بوعي شعبها الذي جعلها في مأمن من هذه الصراعات، وهو حصاد الزرع الذي وضعتم بذوره - يا والدي - في أرض الكويت بجهودكم ونظرتكم الثاقبة للمستقبل.
كانت الهمّة سمةً من سماتكم، وكم تمنينا أن تكون كذلك في هذا الجيل الذي فقد من إشعاعاتها ونورها الكثير... وهو في أمسّ الحاجة لأن يستعيدها... هذا الجيل الثلاثيني الذي ربما لم يشعر بشعورنا عندما فقدنا الكويت يوم احتلها الغاشم... وعشنا في التشرد المؤلم، إذ فقدنا الهوية والمأوى والمنزل وكرامة الحرية.
إننا اليوم يا أبي نحاول أن نجمع الهمم رغم الهموم... لنرى كم يجب أن نعمل لتشرق شمس زمنكم من جديد؛ شمس كويت النهضة التي أسس أركانها والدك الشيخ مبارك الكبير... وأكملت أنت ومعك رجال زمنك المهيب البناء وفق رؤية سبقت ذلك الزمن... وامتدت بصماتها إلى اليوم نراها في كل مكان... في المستشفيات والمدارس والإدارات والجيش والإعلام والطيران والشباب والأضواء والشوارع.
كنت مبادراً في العمل والإنجاز في وقت مبكر؛ فما إن بلغت الثانية عشرة من عمرك حتى انخرطت في خدمة وطنك واعتنقت الواجب الذي لم توقفك دون النهوض به حداثة السن... فحملت على عاتقك مهمة تأسيس دولة حديثة بمرافقها وأمنها وثقافتها وكل كياناتها.
لقد عشت يا أبي فترات مفصلية في تاريخ الكويت، في حين ورثت من والدك حنكة التعامل مع تغيرات دولية كبرى انتقلت فيها القيادة من الدولة العثمانية إلى الانتداب البريطاني ثم الحرب العالمية التي فرضت تغيرات دولية تتطلب تعاملاً ذكياً مع حرص على تأسيس كيان كويت حديثة.
أقول ذلك في الوقت الذي نشهد فيه انعطافة جديدة لم تشهدها دولنا من قبل؛ تحتاج منا إلى أن نتعامل معها بما تعلمناه منكم من خلق نقوّي به صفوفنا وبما هو قائم على الدين والعلم والشيم العربية التي كنتم دوماً تنادون بها وترسّخونها في النفوس جيلاً بعد جيل.
رحلت يا والدي... لكن إنجازاتك باقية، وذكراك في قلوب أصحابك طيبة.
رحلت يا والدي... في ذلك اليوم الذي كانت فيه والدتي - أطال الله بقاءها - بقربك... مثل كل السنين التي رافقتك فيها... وأنتما اللذان كنتما مضرب مثل في المحبة والإخلاص، ومواجهة العواصف، ورفض كل أشكال الخيانات والتآمر... واختيار الصمت، وإيثار الابتعاد في سبيل مصلحة الوطن... وها هي د. سعاد الصباح تصف الموقف شعراً وهي تقول:
جاؤوا إليكَ... لِكَيْ تُبارِكَ فِعْلَهُمْ
 يأبى الإباءُ بأن يكونَ أجيرا*
 وتبقى رسالتي للشباب ليعرفوها؛ رسالة مفادها أننا نحتاج إلى نهضة جديدة بأن نحمل أخلاقاً كأخلاق عبدالله المبارك، ونندفع بإحساس الحمية على وطن جميل علينا أن نصونه ونحافظ فيه على ما بناه آباؤنا وأجدادنا، وندافع من أجله عن قيمنا ومبادئنا بروح الواجب وبالعلم والعمل وتنمية الهمم: فوطن لا نساهم في بنائه أو حمايته قد لا نستحق أن نعيش فيه.

*من ديوان (آخر السيوف)
 للشاعرة د. سعاد الصباح

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي