No Script

سلسلة تُسلّط أضواء على الأعضاء والأنسجة البشرية الداخلية الأكثر عُرضة للاستئصال جراحياً (3 من 10)

غُدَّة البَنْكِرياس... شبيهة «العِثْكال»

تصغير
تكبير

نعرف جميعًا غُدَّة البَنْكِرياس، لكن ما قد لا يعرفه كثيرون هو أن هذا الاسم يوناني (إغريقي) الأصل ثم وجد طريقه إلى اللغات الأخرى حول العالم، وأن لهذه الغُدَّة اسم عربي هو «المُعَثْكَلَة»، كما أن لها كُنية عربية اشتهرت بها منذ قرون ألا وهي «لوزة المعدة».
وبالنسبة لتسمية «بَنْكِرياس» أو «بانكِرياس» اليونانية الأصل (Pancreas)، فإنها كلمة مُركَّبَة تتألف من جزأين أولهما هو كلمة «بان» (Pan) التي تعني «الكُل»، وثانيهما كلمة «كِرياس» (creas) التي تعني «لحم». وبهذا المفهوم، فإن الترجمة الحرفية لكلمة «بَنْكِرياس» هو «كُلُّها لحم»، وذلك لكون هذه الغُدَّة لحمِيَّة بالكامل شكلاً ونسيجاً.
أما تسمية «المُعَثْكَلَة» فهي عربية قديمة مشتقة من كلمة «عِثكال». والعِثكال في اللغة العربية هو عنقود البلح الذي يتدلّى من النخلة بشكل عريض من أعلاه ومستدق من نهايته السفلى. وبهذا فإن كلمة «المُعَثْكَلَة» تشير إلى أن غُدَّة البَنْكِرياس مُعَثْكَلَة الشكل، أي أنها على هيئة عِثكال البلح.
وقديما أيضا، أطلق الأطباء العرب على غُدَّة البَنْكِرياس كُنية «لوزة المعدة»، وذلك في إشارة إلى كونها رافدا يقبع خلف المعدة مباشرة ويصب إفرازاته الهورمونية في الدم مباشرة كما يصب عصاراته الهضمية في الإثنى عشر ومنه إلى الأمعاء الدقيقة لتقوم بمهامها في عملية الهضم.
وما بين هاتين التسميتين وتلك الكُنية، تكمن تفاصيل كثيرة تتعلق بهذه الغُدَّة الفائقة الأهمية والحيوية، وهي التفاصيل التي تسلط حلقة اليوم أضواء على أبرز جوانبها...





شكلها... وموقعها

البَنْكِرياس هي غُدّة شبه مخروطيّة (تُشبه عِثكال أو عنقود البلح) يبلغ متوسط طولها نحو 15 سنتيمترا، وعرضها من 2 إلى 7 سنتيمترات، ووزنها بين 70 و80 غراما، وتتصل بالقناة الهضمية من خلال أنبوب خاص يصب في الإثنى عشر والأمعاء الدقيقة. وبشكل أكثر تحديدا، تقبع غُدّة البَنْكِرياس على مقربة من الإثنى عشر والجزء الأول من الأمعاء الدقيقة، وهي تُفرز العصارات الهضميّة إلى الأمعاء الدقيقة عبر أنبوب ناقل يُعرَف باسم القناة البَنْكِرياسية.
وإذ تتألف غُدَّة البَنْكِرياس من رأس وعنق وجسم وذيل، فإنها تستلقي بشكل أفقي خلف الغشاء البريتوني مباشرة، باستثناء الجزء الأخير من ذيلها فإنه يستقر في الرباط الكائن بين الكُلْية والطُحال.
وللبنكِرياس قناتان مجوفتان، إحداهما رئيسية والأخرى ملحقة. وفي حين تبدأ القناة الرئيسية في ذيل البَنْكِرياس وتشق طريقها على امتداد الغدة البَنْكِرياسية متلقية روافد من اتجهات عدة، فإن القناة الملحقة توجد في الجزء العلوي من الرأس.


وظائفها الفسيولوجية

إذ تُعتبر البَنْكِرياس من أهم الغدد الموجودة في جسم الإنسان، فإنها تتميز بأنها تقوم بدورين مزدوجين في آن معاً يتمثلان في كونها:
1 - غُدّة صماء (داخلية الإفراز): فمن حيث كونها غدّة صماء، تقوم البَنْكِرياس بإفراز عدد من الهرمونات (أهمها الإنسولين) وتصبّها في مجرى الدم مباشرة من دون الحاجة إلى قنوات ناقلة، وهي هرمونات تعمل على استقلاب السُكَّريات والمواد الكربوهيدراتية، وبالتالي فإن نقصها يؤدي عادة إلى الإصابة بأمراض من أبرزها مرض السُكَّري. كما تُطلِق البَنْكِرياس هرمون الغلوكاغون إلى مجرى الدم.
2 -  غُدّة قَنَويِّة (خارجية الإفراز): ومن حيث كونها غُدة قَنَويِّة، تُفرز البَنْكِرياس عصارة تحوي إنزيمات هاضمة وتصبها في مجرى القناة الهضمية من خلال قناة ناقلة.
وهكذا، يتضح أن للبَنْكِرياس دوراً فائق الأهمية في ضبط وتنظيم مستوى سُكَّر الدم في الجسم (طالع الكادر المرفق المعنون «البَنْكِرياس... ونمطيّ السُكَّري». وإلى جانب ذلك تقوم البنكِرياس بإفراز العصارة البَنْكِرياسية الجامعة التي تسهم في عملية الهضم والتمثيل الغذائي (الاستقلاب).
وفي ما يتعلق بمهمة ضبط وتنظيم سُكَّر الدم، يوجد في البَنْكِرياس نحو 3 ملايين من العناقيد الخلوية التي تُعرف تشريحيا بـ «الجزر البَنْكِرياسية» التي تتألف من 4 أنواع من الخلايا التي تتشارك معا في مهام تنظيم مستوى سُكَّر الدم، حيث يفرز كل نوع من هذه الخلايا نوعًا مختلفًا من الهرمونات، وهذه الأنواع الأربعة هي:
• خلايا ألفا (تفرز هرمون الـ «غلوكاغون» الذي يزيد مستوى السكر في الدم عند الضرورة).
• خلايا بيتا (تفرز هرمون الإنسولين الذي يخفض مستوى السكر في الدم إلى مستوى معين).
• خلايا دلتا (تفرز هرمون السوماتوستاتين الذي ينظم ويكبح إفرازات خلايا ألفا وبيتا).
• خلايا غاما (تفرز عديدات البيبتيد البَنْكِرياسية التي تشارك في ضبط مستوى سُكَّر الدم).
وتتخلل هذه الجُزُر البَنْكِرياسية شبكة كثيفة من الشعيرات الدموية، وهو الأمر الذي يجعل معظم الخلايا الإفرازية على تماس مباشر مع الأوعية الدموية، وذلك إما من خلال عمليات التناضح السيتوبلازمي أو من خلال التلاقي المباشر معها.
وفي ما يتعلق بدور البَنْكِرياس في عملية الهضم، فإنها تقوم بعمليات بالغة الأهمية والحيوية، حيث تُفرز عصارة خاصة تحوي إنزيمات تتولى تكسير الكربوهيدرات والبروتينات والدهون. أما دورها الإفرازي الخارجي فتقوم به خلايا تتجمع على هيئة عناقيد وتعرف بـ «الخلايا العِنَّابية» وتتجمع إفرازاتها في قنوات داخل الفُصيص ثم تُصرف بعدها إلى القناة البَنْكِرياسية الرئيسية، ثم إلى الإثنى عشر.

إنزيماتها الهاضمة

تُفرز الغُدَّة البَنْكِرياسية عددا من الإنزيمات الهاضمة المهمة، والتي من أبرزها:
• البروتياز: إنزيم يُسهم في هضم البروتينات.
• الليباز: إنزيم يلعب دوراً مهما في تحطيم وتفكيك الدهون.
• الأميلاز البَنْكِرياسي: إنزيم يحطِّم النشاء وبواقي الكربوهيدرات.
• إنزيمات الفوسفوليباز A2، والليزوفوسفوليباز، وإسترات الكولسترول.


تغذيتها الدموية

يتغذّى رأس غُدَّة البَنْكِرياس من إمدادات دموية تأتيه من الشريان البَنْكِرياسي العفجي العلوي المتفرع بدوره من الشريان المعدي العفجي، كما يتغذّى في الوقت ذاته من الشريان البَنْكِرياسي السفلي المتفرع من الشريان المساريقي العلوي. أما بقية أجزاء البَنْكِرياس فيغذيها الشريان الطحالي.


صلاتها العصبية

البَنْكِرياس مزودة بشبكة خاصة من الوصلات والتمديدات العصبية السمبثاوية واللاسمبثاوية، حيث تتحكم هذه الأخيرة في الإفرازات البَنْكِرياسية، بينما تنتقل مشاعر الألم من البَنْكِرياس عن طريق تمديدات عصبية حشوية.

البَنْكِرياس... ونمطا «السُكَّري»

تلعب غُدَّة البَنْكِرياس أدوارا في حالات الإصابة بالنمطين الأول والثاني من داء السُكَّري، لكن تلك الأدوار تتفاوت في طبيعتها ودرجتها من نمط إلى آخر.
فالنمط الأول من داء السُكَّري ينشأ بسبب اضطراب مناعي مزمن يؤدي إلى قيام الجهاز المناعي بمهاجمة وتدمير الخلايا المفرزة للإنسولين في البَنْكِرياس. وبما أن الإنسولين ضروري لإبقاء مستويات سكر الدم ضمن حدود معينة، فإن تدمير تلك الخلايا يؤدي إلى نقص الإنسولين فتكون نتيجة ذلك ارتفاع مستوى سُكَّر الدم عن الحدود الطبيعية.
وفي حال عدم معالجة هذا النمط، قد يصاب المريض بالتهاب عصبي سكري. ويمكن أن تبدأ الإصابة بهذا النمط في أي مرحلة من عمر الإنسان، لكن معظم الحالات يتم رصدها وتشخيصها عادة قبل سن البلوغ. وعند الإصابة بهذا الداء المزمن، لا بد للمريض من المواظبة طوال بقية حياته على تعاطي حقن الإنسولين.
وحاليا، يعكف باحثون على إجراء تجارب مبشرة لمعالجة النمط الأول من السُكَّري عن طريق نقل وزراعة جزر بَنْكِرياسية مفرزة للإنسولين من بنكِرياس متبرع سليم في كبد المريض المصاب. أما النمط الثاني من داء السُكَّري فإنه ينشأ عنه أيضا ارتفاع في مستوى سُكَّر الدم ولكن إما بسبب قلة إفراز الإنسولين أو بسبب نقص حساسية مستقبلات الإنسولين. وتختلف مسببات النمط الثاني عن مسببات النمط الأول في كونها تتنوع بين وراثية ومكتسبة بيئيا.
لذا، تعتمد تدابير معالجة النمط الثاني على سلسلة من التغييرات في نظام تغذية المريض إلى جانب تغييرات في نمط حياته بما في ذلك ممارسة التمارين البدنية سعيا إلى تخفيض مستويات سُكَّر الدم إلى الحدود الطبيعية وتنشيط حساسية مستقبلات الإنسولين.

حالات مَرَضِيّة... قد تستدعي استئصال البَنْكِرياس

على صعيد المعالجة الاستئصالية، هناك حالات مرضية معينة قد تستدعي اللجوء إلى إزالة غُدَّة البنكِرياس جراحيا إما فورًا أو بعد محاولات علاجية أخرى. ومن بين تلك الحالات، نسلط الضوء على التالي:


الإصابات السرطانية

سرطان البَنْكِرياس يعتبر من السرطانات الشائعة. وبشكل خاص، يُصنَّف سرطان البَنْكِرياس الغُدّي من أصعب السرطانات وأكثرها استعصاء على المعالجة، خصوصا أنه لا يتم اكتشافه عادة إلا في مرحلة متأخرة لا تجدي معها الإزالة الجراحية نفعا كثيرا.
لكن الإصابة بسرطان البَنْكِرياس تكون نادرة بين من تقل أعمارهم عن 40 عامًا، والعمر المتوسط للتشخيص بالإصابة به في بلدان منطقة الشرق الأوسط هو 66 عامًا.
ومن بين أبرز عوامل الخطورة التي تسهم في الإصابة بسرطان البَنْكِرياس:
• التدخين: فحوالي 25 في المئة من حالات سرطان البَنْكِرياس ترتبط بتدخين التبغ.
• السمنة المفرطة.
• الإصابة المزمنة بمرض السُكَّري.
• بعض الأمراض الجينية المنشأ، بما في ذلك الأورام الصماوية المتعددة من النمط الأول، وسرطان القولون السلائلي الوراثي.


الاستسقاء

عندما تُصاب غُدَّة البَنْكِرياس بالاستسقاء فإن ذلك يؤدي إلى تسريب إنزيماتها الهاضمة إلى التجويف البطني المحيط بها، وهو الأمر الذي يؤدي إلى إتلاف الأعضاء المجاورة إذ تقوم تلك الإنزيمات بهضم أنسجة تلك الأعضاء، علاوة على أن البَنْكِرياس تبدأ في هضم خلاياها ذاتيا.
وفي مثل تلك الحالات، يستدعي الأمر تدخلًا جراحيًا عاجلًا يشتمل عادة على استئصال البَنْكِرياس.


الالتهاب

التهاب البَنْكِرياس هو حالة مرضية تنشأ عندما تبدأ الإنزيمات الهضمية بهضم نسيج وخلايا البَنْكِرياس.
وقد يكون الالتهاب حادّاً أو مزمنًا، لكنه يكون في كلتا الحالتين خطيرا ويمكن أن يؤدي إلى حدوث مضاعفات ضارة.
بالنسبة لالتهاب البَنْكِرياس الحاد فإنه يظهر فجأةً، لكنه ينحسر تدريجيا في غضون أيّام قليلة من تلقي العلاج المناسب، وهو ينشأ غالبًا بسبب الحصيات الصفراويّة.
ومن بين أعراضه الأكثر شيوعا: الشعور بألم حاد في أعلى البطن، غثيان، تقيؤ، خسارة الوزن والبراز الدهني. و عادةً، يستدعي العلاج قضاء بضعة أيّام في المستشفى تحت الملاحظة حيث يتم إعطاء المريض سوائل وريديّة مغذية ومضادّات حيوية ومسكّنات للألم. وقد يحتاج المريض بعد ذلك إلى تعاطي إنزيمات مكملة واتباع حمية غذائية خاصّة مع الامتناع نهائيا عن التدخين وتعاطي المشروبات الكحوليّة.
أما التهاب البَنْكِرياس المزمن فلا يشفى من تلقاء نفسه ولا ينحسر مع العلاج، بل يزداد سوءًا مع مرور الوقت ويؤدّي إلى تلف دائم، لذا فإن خيار الاستئصال الجراحي يكون حتميا في النهاية.
والإسراف في تعاطي الكحول هو من بين أبرز مسببات التهاب البَنْكِرياس المزمن، ومن بين المسببات الأخرى: داء التليّف الكيسي، بعض الاضطرابات الوراثية، ارتفاع مستويات الكالسيوم أو الدهون في الدم، بعض العقاقير واضطرابات جهاز المناعيّة الذاتيّة.
وغالبًا ما يكون سبب التهاب البَنْكِرياس هو حصيات المرارة أو تعاطي المشروبات الكحول. لكن هناك مسببات أخرى، بما في ذلك الإصابة بالحصبة أو النكاف، أو تناول جرعات زائدة من أنواع معينة من العقاقير، وكذلك بعض حالات اضطراب جهاز المناعة الذاتية، وحتى لسعات أنواع من العقارب.
وتنتج عن معظم حالات التهاب البَنْكِرياس أعراض ظاهرية، من أبرزها وأكثرها شيوعا:
• ألم مبرح في منتصف البطن، ينتشر غالبًا وصولا إلى الظهر.
• اليرقان.
• مشاكل وصعوبة في هضم الدهون
• براز شاحب وبول داكن اللون.
وطبيًا، تعتمد المعالجة الأولية لالتهاب البَنْكِرياس على استخدام مسكنات للآلام جنبا إلى جنب مع إجراءات دوائية وجراحية أخرى تستهدف إزالة المسبب الأساسي للالتهاب، بما في ذلك إزالة حصيات المرارة على سبيل المثال. لكن إذا فشلت جميع تلك العلاجات فإنه يتم اللجوء إلى خيار الاستئصال الجراحي للبَنْكِرياس.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي