No Script

خواطر صعلوك

فضيلة الذاكرة... الغيب

تصغير
تكبير
حين تختار الذاكرة حادثة معينة لتبقيها قيد الرواية والسماح لها دخول مجال المحكي، فهي بذلك تدعم هذه الحادثة وتريد لها أن تنتشر وتستمر وترى أنها ذات أهمية عندما تقال.

لذلك فإن ذاكرتك هي أنت.


فإذا كان من حق الصحف والإعلام والمواقع الإلكترونية ولجان الموافقة على الأفلام والكتب أن تمارس رقابة ما من أجل الحفاظ على الأمن والذوق العام... فبالتأكيد إن من حق الذاكرة أن تمارس رقابة ما حفاظاً على إنسانيتك!

كيف تمارس الذاكرة رقابتها؟ وكيف تمنحك مساحات خالية لتملأها بما شئت أو تتركها كما هي؟

لا شك أن هذا سؤال كبير أكبر من بوابة مجلس الأمة التي سمحت للجميع بالدخول والتشريع، سؤال لا أستطيع أن أجيب عنه وحدي، فصديقي الذي يحمل ذاكرة منخفضة الثبات، مع مؤشر عالٍ على أنها ستنخفض أكثر خلال الفترة المقبلة قد سألني سؤالاً آخر ولكنني نسيته!

عموماً، كم عدد الأشخاص الذين تذكرهم ممن قابلتهم خلال السنوات الخمس الماضية؟

ودعني أنقل السؤال لك عزيزي القارئ بطريقة أخرى.

جيرانك في شقق الإيجار الذين يتغيرون باستمرار، وخادمتك التي تتغير كل سنة أو سنتين، وأرقام الهواتف التي أصبحت تتساقط من «لستة» هاتفك، و«قروبات الواتساب» التي تدخل وتخرج منها، وزملاء العمل، وعمال النظافة في شارعك، وجارك في مقعد طائرة أو كرسي السينما.

عدد المغنين الذين لم يعودوا يطربونك، وعدد الممثلين الذين لم يعودوا يقنعونك، وعدد المسؤولين الحكوميين الذين يصدرون قرارات لا تمسّك... وعدد الأعضاء الذين لا يمثلونك... وأعداد من يمثلون عليك.

عدد المقالات التي كتبت والأفلام التي عرضت وعدد اللوحات التي رسمت وعدد الدراسات التي بذلت عن الفقراء والفقر، فاغتنى أصحابها وبقي الفقراء كما هم.

في السنوات الخمس الماضية، كم مرة كان عليك أن تعتذر عن أشياء لم تقلها... وتتأسف من أناس لم تخطئ بحقهم حشروا في فمك كلاماً لم تقصده... وتلعن نفسك ألف مرة من أجل أن يشعر الآخرون بالبركة.

كم عدد الحلاقين الذين لم يعودوا يحدثونك عن أبنائهم، والجزارين الذين لم يعودوا يرسلون التحية لآبائك، وعمال السباكة والنجارة والأصباغ والسيراميك والستالايت وتصليح السيارات الذين تتعامل معهم لمرة واحدة من دون أن تعرف حتى أسماءهم.

في السنوات الخمس الماضية... كم كان عدد الأشخاص الذين شاهدتهم وهم يَقتلون أو يُقتلون، وعدد الأطفال تحت الأنقاض الذين يشبهون أطفالك. وأوطان تُحرق تشبه أوطانك، ولاجئة كبيرة في العمر تشبه أمك.

هنا يجب على الذاكرة أن تتدخل فوراً وتمارس رقابتها حفاظاً على إنسانيتك!

إنها تتدخل لكي لا تتحول إلى مسخ وتمنعك من تذكرهم، وتسمح لك ألا تتأمل في تفاصيلهم... لا داعي لأن تكون ودياً أو عدائياً معهم... إنهم غرباء.

وقديماً كان الغريب هو من نراه للمرة الأولى، ولكن في المرة الثانية كانت الذاكرة تسمح لنا أن نقدم الأسلوب اللائق لمعاملته بناءً على مجموعة تأملاتنا السابقة له.

اليوم الذاكرة تمارس رقابتها بقوة لمصلحتك... تنسيك ما لا تحتاج تذكره لكي لا ترهق أعصابك في تأمل الجنس البشري الذي سرعان ما سيكون مصدر إزعاج لك في كل مرة تراه فيها.

الذاكرة كنهر طالوت، لا ينجو منها شارب إلا من اغترف غرفة بيده، وفي كل مرة ستطمع بالمزيد في عالم غارق في التفاصيل وعاطس في وجهك بآلاف الآلام التي تنسيك واقعك حيث ستحولك حرية التذكر إلى كائن يقظ ومنتبه حد الانهيار.

لتدع الذاكرة تمارس رقابتها حفاظاً على إنسانيتك! لتدع رقابة الذاكرة تمنع عرض المواضيع التي هي عبارة عن خيبات وهزائم وأوزار ومعاصٍ أثقلت كاهلك، لتدع الذاكرة تمارس رقابتها فقط لكي تتنفس.

وابحث عن الغيب في رتيب المبعثر ولا تخش، فإن هذه الرقابة ليست هدراً للحوادث والأشخاص، ولكنها تمنعها عنك حتى تستوفي شروط الاطلاع والبحث والقدرة على الاعتذار... لنفسك ولغيرك ولله.

رقابة الذاكرة هي النسيان... وفضيلتها هي الغيب فقط لكي تتنفس.

ولكي تتنفس... انس هذا المقال أيضاً.

كاتب كويتي

moh1alatwan@
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي