No Script

مناورات روسية في سورية

تصغير
تكبير
ثمّة ما يجمع بين موقفي روسيا من جهة والنظام السوري من جهة أخرى. يتمثّل القاسم المشترك بينهما في الابتعاد عن الواقع، الى ابعد حدود، والسعي الى خلق عالم خاص بكلّ منهما. لا يريد النظام السوري تصديق انّ الشعب السوري ضدّه وانّه صار في مزبلة التاريخ منذ سنوات عدّة وانّ سورية صارت مقسّمة الى مناطق نفوذ عدّة. ترفض روسيا الاقتناع بانّ ليس في استطاعتها إعادة الحياة الى مؤسسات الدولة التي ساهمت في بنائها في سورية.

لن تستطيع روسيا ذلك لسبب في غاية البساطة. يعود هذا السبب الى ان هذه المؤسسات ارتبطت بنظام غير شرعي قام أساسا على التمييز بين السوريين من منطلق مذهبي وطائفي وعلى سياسة قائمة على الابتزاز والفساد. منذ متى يصلح الابتزاز والفساد لبناء شرعية او مؤسسات لدولة عصرية تقيم علاقات سليمة مع محيطها؟


يبدو رهان روسيا على بناء شيء ايجابي انطلاقا مما بقي من مؤسسات الدولة السورية في غير محلّه. انّه رهان على المستحيل لا يصبّ سوى في تقسيم سورية الى مناطق نفوذ مع بقاء بشّار الأسد في دمشق كصورة ليس الّا. ستكون موسكو اسيرة انتظار اليوم الذي تستطيع فيه الحصول على شيء ما في مقابل رأس رئيس النظام السوري الذي لم يعد يوجد من يعتبره حتّى ورقة.

كلّ ما تستطيع روسيا عمله هو التوصل الى اتفاقات من نوع الذي توصلت اليه في الجنوب السوري بالتفاهم مع اميركا والأردن. لم يكن ممكنا التوصل الى مثل هذه الاتفاقات من دون موافقة إسرائيل المهتمة قبل غيرها بنوع من التهدئة في تلك المنطقة الحساسة نظرا الى انّ الجولان يشكّل امتدادا لها. كشف الاتفاق عمق العلاقة الروسية - الإسرائيلية بعدما اخذ في الاعتبار ان إسرائيل، ذات الهواجس الكثيرة، لن تقبل بوجود إيراني مباشر او غير مباشر في المنطقة الممتدة من الجولان الى دمشق. لا يمكن تجاهل ان المسافة بين خط وقف النار في العام 1967 والعاصمة السورية هو 37 كيلومتراً، في حين ان الاتفاق الروسي - الاميركي - الأردني يغطي منطقة تمتد الى 40 كيلومترا.

كان مهمّا وضع المملكة العربية السعودية النقاط على الحروف في ما يخص مستقبل بشّار الأسد. مهما حاولت روسيا تعويم النظام السوري، هناك امر اكيد. لا مكان لبشّار في سورية بغض النظر عن الطبيعة التي سيؤول اليها الكيان السياسي الذي اسمه «الجمهورية العربية السورية».

نسبت احدى وسائل الاعلام الرسمية الروسية اخيرا كلاماً الى وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عن قبول المملكة ببقاء بشّار الأسد. استدعى ذلك توضيحاً سريعاً من وزارة الخارجية السعودية شدّد على الموقف الثابت «للرياض من رئيس النظام السوري»، وعلى ان«ايّ مستقبل جديد لسورية لا مكان فيه لبشّار الأسد»... كلام واضح ونقطة على السطر.

هناك مناورات وبهلوانيات روسية تصبّ في السعي الى كسب الوقت. ما الذي يمكن ان يؤدي اليه كسب الوقت غير مزيد من التفتيت لسورية في وقت بات واضحا كلّ الوضوح ان ثمّة حاجة الى نقلة نوعية في التفكير في كيفية الوصول الى حلّ سياسي يوفق بين طموحات الأطراف المعنية بالازمة السورية. يظل السؤال في النهاية هل يمكن التوفيق بين الطموحات المختلفة... ام يجب الاكتفاء بمناطق النفوذ القائمة حالياً، وهي مناطق نفوذ روسية وأميركية وايرانية وتركية وإسرائيلية، فيما يقتصر همّ الأردن على حماية نفسه من إرهاب«داعش»ومن اقتراب«الحرس الثوري»الايراني وتوابعه من حدوده؟

تقوم موسكو بكل المناورات التي تستطيع القيام بها، بما في ذلك الاستعانة بمصر، تلافيا لمواجهة لحظة الحقيقة المتمثلة في ان لا مستقبل لسورية بوجود النظام القائم. هناك محاولات إيرانية وروسية لابقاء النظام في غرفة الإنعاش. يمكن فهم ما تقوم به ايران الحريصة على ان تكون سورية جزءا لا يتجزّأ من مشروعها التوسّعي القائم على ربط طهران ببيروت مرورا ببغداد ودمشق. ما ليس مفهوما ما تقوم به روسيا التي آن أوان اقتناعها بانها عاجزة عن لعب دور القوة العظمى، لا في الشرق الاوسط ولا خارج الشرق الاوسط مهما فعلت من اجل استرضاء إسرائيل وتوفير كلّ الضمانات التي تطلبها.

لعلّ اخطر ما في التصرفات الروسية انهّا تخدم كلّ ما من شأنه استمرار حال من اللاستقرار في الشرق الاوسط والخليج. انّها تسمح لإيران بالعمل على إيجاد بدائل من إخراجها من الجنوب السوري. ما نشهده اليوم هو سعي إيراني الى التشبث بمناطق بديلة من الجنوب السوري مع تركيز خاص على لبنان وعلى ربط مناطق سورية تحت سيطرتها بأخرى تحت سيطرة«حزب الله»في لبنان. ليست الصفقة التي تمت بين«حزب الله»و«جبهة النصرة»في جرود عرسال سوى فصل آخر من فصول اللعبة الايرانية التي سيتقرر مصيرها في النهاية في منطقة الحدود العراقية - السورية.

حان الوقت ان تتصرّف روسيا بطريقة منطقية في سورية. يفترض فيها ان تتذكّر ان حجم اقتصادها يقل عن حجم اقتصاد دولة مثل كوريا الجنوبية، وهو اقل بكثير من حجم اقتصاد إيطاليا او فرنسا او المانيا التي يبلغ حجم اقتصادها ثلاث مرات حجم الاقتصاد الروسي.

لن يكون في استطاعة دولة تعاني من كلّ ما تعاني منه روسيا التصرّف كقوة عظمى في المدى الطويل. لو كان ذلك ممكنا لما انهار الاتحاد السوفياتي. هناك خدمة وحيدة يمكن لروسيا تقديمها للسوريين في حال كانت تريد فعلا مصلحتهم. بدل الرهان على صفقة ما مع الولايات المتحدة، حيث إدارة ما زالت قيد التشكيل، وعلى الوقت الذي لا يخدم سوى المشروع التوسّعي الايراني الذي يؤذي بلدا مثل لبنان، لماذا لا تحاول اللجوء الى المنطق؟

المنطق يقول ان أي محاولة لاعادة بناء مؤسسات الدولة السورية لن يكتب لها النجاح ما دام بشّار الأسد لا يزال في دمشق. تحتاج سورية اوّل ما تحتاج الى رجال جدد يأخذون في الاعتبار تركيبة سورية وطبيعة شعبها والعوامل الجديدة التي طرأت أخيرا، بما في ذلك الوجود العسكري الاميركي في المناطق التي تحوي ثروات البلد (الاراضي الزراعية والغاز والمياه) وبروز دور الاكراد وتطلعاتهم وكلام تركيا عن انها تسيطر على الفي كيلومتر مربّع من الأراضي السورية.

ليست السياسة الروسية في سورية من النوع القابل للحياة. مردّ ذلك الى ان ليس لدى روسيا أي اقتراح بنّاء تقدّمه باستثناء استرضاء إسرائيل وايران في الوقت ذاته والسعي الى صفقة مع الولايات المتحدة تشمل أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.

من الآن الى ان تتبلور معالم مثل هذه الصفقة ستزداد الاوضاع السورية تعقيدا. الثابت الوحيد ان لا مكان لبشّار في أي حلّ او تسوية مهما ضعفت المعارضة السورية ومهما تشرذمت. مثل هذا التمسّك برجل مسؤول عن مقتل ما يزيد على نصف المليون سوري، هو مثل الرهان السوفياتي الذي كان قائما على امكان نجاح حزب شيوعي في حكم بلد يقوم على القبلية والعشائرية مثل ذلك الذي كان اسمه«جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية»...

سيفشل الرهان الروسي في روسيا مثلما فشل الرهان السوفياتي في اليمن الجنوبي وغير اليمن الجنوبي في الماضي. هناك في موسكو من لا يريد ان يتعلّم ويعتقد ان تكرار الخطأ فضيلة!
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي