No Script

انكماش اقتصادي وتراجع السياحة وبطالة... وربع مليون مهاجر

«ثورة الياسمين» تحبط الشباب التونسي

تصغير
تكبير
أكثر من 100 ألف تونسي يعملون في الدول العربية خصوصاً الخليجية

نسبة البطالة 15.2 في المئة وعدد العاطلين عن العمل 605 آلاف شخص

تراجع النمو الاقتصادي إلى 0.8 في المئة العام 2015 مقابل 2.3 في المئة في 2014

تونس من أقل الدول التي استقبلت استثمارات أجنبية
عبر البحر والبر والجو، في شكل شرعي وغير شرعي، يسعى الشباب التونسي، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، الى مغادرة بلاده بحثا عن ملاذ آمن للرزق، حيث سجلت البلاد أكبر عدد للمهاجرين في تاريخها بلغ نحو أكثر من 100 الف تركوا البلاد في عام 2014 فقط.

ومنذ العام 2010 تاريخ اندلاع «ثورة الياسمين» في تونس، يقدر عدد التونسيين الذين هاجروا البلاد الى 2014 نحو 175 ألف تونسي وتونسية مقيمين بشكل شرعي في نحو 84 دولة في العالم حسب ديوان التونسيين في الخارج. وفي حال احتسبنا معدل الهجرة في تونس منذ بداية الثورة بنحو 34 ألفا، سنويا، فمن المحتمل أن عدد المهاجرين بعد الثورة فقط الى اليوم قد بلغ نحو ربع مليون تونسي ليكون عدد المهاجرين الاجمالي اقترب من مليون ونصف المليون. ناهيك عن المهاجرين غير الشرعيين الذين هاجروا سريا خصوصا عبر السفن البحرية الى شواطئ أوروبية ابرزها ايطاليا. حيث هاجر الاف التونسيين في هجرات سرية الى شواطئ جزيرة لمبادوزا الايطالية في 2011 زمن نجاح الثورة التونسية في طرد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.

والمثير أكثر للاهتمام، تسجيل أكبر نسبة هجرة للاناث في تاريخ حركة المهاجرين التونسيين، حيث زاد عدد المهاجرات في 2014 الى نحو 48 ألفا. ويعد هذا الرقم غير مسبوق، حيث كان متوسط عدد المهاجرات خلال العقد الأخير بحدود نحو 10 الاف سنوياً، وفق آخر احصاءات لوزارة الشؤون الاجتماعية التونسية.

زيادة اقبال الشباب التونسي على الهجرة، رغم العوائق الكثيرة التي تفرضها الوجهات المفضلة لديهم، كأوروبا مثلا، يعكس حالة الاحباط لديهم، فيتعلق بعضهم بآمال الانتقال الى الخارج، آمال من المرتقب ان تكون ضئيلة مستقبلا اكثر من ذي قبل، بسبب سياسات دولية جديدة مقيدة للهجرة، خصوصا لدى دول اصبحت هدفا لملايين الفارين من بلدانهم هربا من ويلات الحروب.

وتقدر نسبة الشباب الذي لا يتجاوز سنه الـ 35 سنة نحو 70 في المئة من المجتمع التونسي، وفق معهد تونس للسياسة، نسبة كبيرة من قوة عاملة نشطة وبينها كفاءات كبيرة تحلم بالعمل. وأصبح هذا المطلب حلما لدى الكثيرين الذي اختار بعضهم على مضض الهجرة لكن قد يكون من قرروا الهجرة اليوم غير محظوظين كفاية لأسباب مختلفة، اهمها توتر الأوضاع الأمنية في الجوار التونسي، ثانيا تحولات استراتيجية في الجوار الأوروبي الرافض للمهاجرين، وثالثا التنافسية الكبيرة على سوق العمل الدولي وتدني سقف الرواتب نظرا لتفوق الطلب على العمل على العروض المتوافرة.

فهل ينتظر الشباب التونسي في بلاده فرصة العمل، ام انه يقتنع بعدم جدوى الهجرة خصوصا بعد عودة الاف المهاجرين من أوروبا، أو انه يصر على الرحيل مهما كانت الظروف؟ وهل سيأتي يوم يهاجر فيه آخر شاب من تونس، ام ان بعض الشباب التونسي ما زال لديه أمل في اشراكه في بناء بلاده بدل الرحيل عنها؟

رحيل الشباب أصبح حلماً لدى الكثيرين من «زهور ياسمين الربيع» التونسي. وباتت الهجرة بمثابة الظاهرة الاجتماعية التي شملت شرائح مختلفة، من شباب مثقف وغير مثقف، حيث قد يرتفع عدد المهاجرين المسجلين فقط، الى نحو مليون ونصف المليون - من اصل 11 مليون تونسي - ثلثهم من الاناث، اللواتي يقصدن أوروبا وبعض الدول العربية من أجل العمل، في دلالة حسب الصحافية التونسية أميمة السعيداني، على «قدرة المرأة التونسية على اثبات نفسها ناهيك عن تحسن كفاءتها المهنية ومستواها التعليمي، حيث اصبحت تنافس الرجل في الميادين كافة»، في حين بررت احدى الدراسات الأخرى، زيادة نسبة هجرة الطلبة الاناث، من اجل التعليم والدراسات العليا.

لكن المثير في الموضوع، يتمثل في الارتفاع اللافت لقاصدي الدول العربية خصوصا الخليجية، على غير عادة الوجهة المفضلة للتونسيين، وهي القارة الأوروبية، خصوصا فرنسا التي تستأثر بنحو 55 في المئة من المهاجرين التونسيين، اي نحو 700 الف يقيمون على اراضيها، حيث قفز عدد التونسيين المتوجهين الى اشقائهم العرب، الى نحو الضعف، وبات عدد التونسيين المقيمين في هذه الدول (باستثناء دول المغرب العربي) يناهز الـ 100الف، حسب احصاءات ديوان التونسيين في الخارج لعام 2014 المنشورة على موقع«بلادي» البوابة الالكترونية للمقيمين التونسيين في الخارج.

ارتفاع نسبة التوجه الى الشرق بدلا من الوجهة التقليدية، الغرب، مرده ايضا برزت الى ان الدول الأوروبية بدأت في مراجعة سياسة الهجرة اليها خصوصا بعد هجمات باريس في نوفمبر 2015، حيث بادرت فرنسا الى اعتماد سياسة جديدة لدعم عودة المهاجرين الى بلدانهم عبر تقديم دعم مالي لمن يرغب في العودة ومساعدتهم على فتح مشاريع في بلادهم.

هذه السياسة، دفعت اكثر من 75 الف تونسي، الى العودة، حسب مصادر رسمية، في حين عززت الحكومتان التونسية والفرنسية، اتفاقات التعاون بخصوص اطلاق مشاريع ومؤسسات صغرى. لكن الى اليوم، لم تصدر ارقام او تصريحات حول مدى تقدم تحقق مشاريع العائدين من الهجرة، حيث ان الظروف الاقتصادية التي تمر بها تونس، حسب وصف المسؤولين الحاليين والسابقين، تعتبر حرجة.

فقد ذكر أخيرا محافظ البنك المركزي السابق مصطفى كمال النابلي، أن الحكومة اليوم غير مدركة للوضع الاقتصادي الذي تعيشه تونس، مشيرا الى أن البلاد تحتاج الى مخطط حقيقي للنهوض بالوضع الاقتصادي، لا الحديث عن المخططات فقط.

تراجع النمو الاقتصادي

وضع اقتصادي هش لعل ابرز دلالاته، تراجع النمو الاقتصادي الى 0.8 في المئة في 2015 مقابل 2.3 في المئة في 2014. تراجع كبير يبرره تقلص نسبة الاستثمار الخارجي والمحلي في ظل ظروف امنية بين شد وجذب في اطار محاربة الارهاب الذي أضر كثيرا بمناخ الأعمال في البلد الذي مدحته كثيرا دول العالم لنجاحه في الانتقال الديموقراطي، ولو كان بوتيرة بطيئة.

لكن هذا البلد الذي تحتفي به قوى عظمى كنموذج للتغيير الديموقراطي في العالم العربي، لم يستفد بصفة مباشرة حسب بعض الكتاب التونسيين كرياض الصوفي، من هذه السمعة الرنانة، اذ بقي الى حد ما معزولا عن فرص الاستثمار الدولية والعربية. فتونس من اقل الدول التي استقبلت استثمارات اجنبية منذ نجاح ثورتها اضافة للدعم المالي المحدود المتمثل في المنح التي استفادت منها دول اخرى كمصر. وذكرت دراسة لمكتب التدقيق المالي البريطاني «أرنست أند يونغ» أن الاستثمار الأجنبي المباشر في تونس تراجع بحدود 42.1 في المئة في نهاية 2014.

وحسب تعبير الصوفي، بقي المستثمر العربي والأجنبي في حالة تردد امام الاستثمار في تونس، خصوصا بعد توتر الأوضاع في ليبيا والاحداث الارهابية التي عرفتها البلاد. كما اكد أن تنظيم «داعش» أضر كثيرا بسمعة البلد، ونزع صفة الأمن المعروفة عنها، واستطاع ان يثير مخاوف الغرب والعرب ازاء الاقبال على تونس، ما ادى الى تضرر الجزء الأكبر من الاقتصاد التونسي، وتراجعت ايرادات السياحة في شكل لافت بلغ حد اقفال بعض الفنادق، اذ اغلق نحو 70 فندقا فقط عقب احداث سوسة الارهابية. وبذلك تراجعت إيرادات السياحة على مدى 10 أشهر من 2015 بأكثر من 33 في المئة، كما انخفض عدد السياح بنحو 34 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من 2014، وهذا ما عزز انكماش الاقتصاد. كما تردد ان بعض الشركات الأجنبية غادر البلاد. وذكرت صحيفة «الصباح» التونسية ان 400 مؤسسة أجنبية غادرت في 2014 فيما يرجع البعض ذلك لموجة الاحتجاجات العمالية المطالبة برفع الأجور في القطاع الخاص.لكن هذه الموجة مبررة لدى معظم الشعب الذي يعاني موجة غلاء كاسحة في اسعار المواد الاستهلاكية والعقار في ظل بقاء اسعار المحروقات مرتفعة نوعا ما، مقارنة بانخفاض اسعار النفط في العالم، وايضا مقارنة مع متوسط دخل الفرد في تونس الذي ارتفع بدوره بعد الثورة الى نحو 4360 دولارا، حسب البنك الدولي. لكن في مقابل نسبة التضخم التي ارتفعت الى اكثر من خمسة في المئة، يجد التونسيون عناء كبيرا لترشيد انفاقهم وبلوغ مستوى الحياة الكريمة التي يطمح لها كل مواطن.

وقد يكون هذا الطموح غير متوافر للكثيرين الذين لم يستطيعوا تحمل تراجع قدرتهم المعيشية خصوصا فئة العاطلين عن العمل،

ما شكل حافزا مهما لاختيار آلاف التونسيين والتونسيات قرار الرحيل والبحث عن موطن رزق آخر في الخارج، اذ ان طول انتظار الوظيفة الذي يبلغ سنوات بعد التخرج، قد يكون السبب المباشر الضاغط على بعض الشباب لاستباق تقدم العمر والبحث عن ملاذ آخر للرزق في ظل محدوديته في البلاد التي تواجه مشكلات اكبر خصوصا في ما يتعلق بسداد المديونيات الخارجية، حيث أظهرت بيانات رسمية أن حجم الدين الخارجي لتونس ارتفع في 2015 بنحو 52.9 في المئة من اجمالي الناتج المحلي، بعد ان كان في حدود 49.2 في المئة عام 2014. تراجع الفرص الاستثمارية الداخلية وارتفاع المديونية الخارجية وتزايد الاستحقاقات الشعبية، خصوصا حق العمل والتأمين الصحي والتعليم والسكن والانفاق، ظروف طاردة للتونسيين الطامحين بحياة أفضل. ومثلت الظروف الحالية وضعا استثنائيا دفع العشرات خصوصا من حاملي الشهادات العليا الى اختيار السفر والهجرة. الا ان الهجرة لم تنحصر بالمتعلمين فقط، بل شملت من هم في سن المراهقة وغير المتعلمين، الذين يواصلون «الهجرة السرية» نحو اوروبا، خصوصا ايطاليا المتاخمة سواحلها للمياه الاقليمية التونسية.

السفر الى ليبيا

كما جازف اخرون بالتوجه الى ليبيا - اكثر دولة عربية تستقبل تونسيين -

في تحد لظروف الصراعات المسلحة، حيث يبلغ عدد التونسين العاملين في الدولة المجاورة التي تمزقها صراعات مسلحة، بين 70 و120 الفا، وفق مصدر «العربي الجديد». الا ان هذا العدد تقريبي، وقد يتقلص، حسب البعض، في حال تصعيد المواجهات العسكرية، حيث ان تزايد التوتر في ليبيا وتوقعات تدخل اجنبي لمواجهة تمدد تنظيم «داعش»، مَثّل العامل السلبي الأول المؤثر على حركة تنقل الأفراد بين البلدين وفرص العمل فضلا عن تأثيره على تطلعات التنمية الجهوية بين تونس والدول المغاربية، حيث يمثل أي تصعيد اقليمي عسكري في ليبيا على غرار العراق أو سورية، انسداد عمق اقتصادي مهم لتونس يتمثل في السوق الليبية التي كانت قبل الثورة تستورد الكثير من بضائع المصانع والمزارع التونسية اضافة الى تشغيل الشركات الليبية لعشرات الآلاف من التونسيين

تونس تفقد كفاءاتها

في اطار تطبيق دول اوروبية كثيرة لسياسة الهجرة الانتقائية للعقول والكفاءات، تبين ان تونس من الأكثر الدول العربية التي تفقد ادمغتها وكفاءاتها المهاجرة.

وكشفت مؤشرات ان أعداد المهاجرين العرب ارتفعت إلى مليون كفاءة مهاجرة خلال 2010، مقابل 452 ألفاً عام 1980. وتم تقدير خسائر الدول العربية، بنحو 200 مليار دولار، طبقاً لتقديرات الجامعة العربية، حيث تضاعف عدد الأدمغة العربية المهاجرة، خصوصا في قطاعي التعليم والصحة. وبينت المعطيات ان مصر ولبنان والمغرب وتونس من أكثر الدول فقدا للكفاءات.

البطالة... والدراسات العليا

في حين انتجت البطالة دافعا قويا للبعض لمغادرة تونس، دفعت البعض الآخر لمواصلة تعليمهم العالي، حيث ان الكثير من طلبة تونس يسعون لنيل شهادة الدكتوراه. ومن المتوقع ان يكون عدد الخريجين حاملي الماجستير والدكتوراه، اكثر من اي وقت مضى، ما يعني ان مستوى الكفاءات قد ارتفع بضغط من واقع صعوبة الالتحاق بسوق العمل، ما يدفع البعض الى اكمال الدراسات العليا. هذا الانعكاس الايجابي لمشكلة كبيرة، قد يضاعف من ازمة جديدة تتمثل في استيعاب المثقفين في المرحلة المقبلة.

«ولدك راجل»

«ولدك راجل» (أو ابنك راجل)، هو أول فيلم وثائقي خيالي مدته 60 دقيقة سيعرض منتصف مارس الجاري في تونس. قصة الفيلم تعكس واقع احدى مشكلات الشباب، اذ يتتبع الفيلم رحلة المهاجر غير الشرعي «عربي»، بعمر 15 عاما الى أوروبا، حيث كان يعتقد انه رحل الى «ارض الأحلام». «عربي» أصبح عمره اليوم 23 عاماً وما زال مهاجرا من دون وثائق ثبوتية... الى اليوم يعيش متخفيا عن الشرطة. وحسب ملخص الفيلم الذي نشر على مواقع تونسية، فانه كشف أن «هناك الآلاف من التونسيين يعيشون في فرنسا وسويسرا وفي العديد من دول الاتحاد الأوروبي من غير وثائق ثبوتية او اقامة شرعية، محملين بالأمل والأوهام لايجاد عمل وحياة أفضل، ليس فقط لأنفسهم لكن أيضا لأسرهم». الهروب من البؤس من أجل مستقبل أفضل في أوروبا، هو حلم آلاف المهاجرين غير الشرعيين. لكن هناك واقعا مختلفا تماما عما كان يعتقده الشباب حول الهجرة، فوفق الشهادات التي قدمها الفيلم الذي يعرض حقائق عن بعض الشباب التونسي المهاجر، فان حلم «عربي» في النجاح لم يتطابق مع الواقع القاسي لحياة الهجرة السرية. ورغم أنه يرغب في العودة إلى تونس، فقد فات الآوان حسب قصة الفيلم ولم يعد يستطيع ان يلتفت إلى الوراء فهجرته الى فرنسا لم تفده شيئا، الا انه في المقابل لا يمكنه العودة «مفلسا».

حلول غير ناجعة

لا تزال تونس تراهن اساسا على اوروبا من اجل زيادة الصادرات واستقبال الاستثمارات، من اجل خلق فرص عمل وتخفيف الاحتقان الاجتماعي بسبب زيادة البطالة وموجة الغلاء في ظل تراجع نسبة النمو ومحدودية المشاريع التنموية الكبرى الأجنبية وحتى الوطنية.

كما ان الحكومة تحاول ايجاد حلول لطمأنة الشباب بأن الأمل في فرص حياتية افضل ما زال متاحا طالما ان الحليف الاستراتيجي، وهو الاتحاد الأوروبي، يدعم تحسين الأوضاع الاقتصادية من اجل المحافظة على نموذج الانتقال الديموقراطي، لأنه ووفق الاوروبيين لا يكتمل الانتقال الديموقراطي من دون منوال تنمية حقيقية يستفيد منها الشعب، خصوصا القوة العاملة الخاملة، وهي الشباب الذي ينتظر جزء كبير منه في طوابير تحقيق احلامه. ومن المرتقب بدء مفاوضات بين تونس والاتحاد الأوروبي من أجل إبرام ما يسمى اتفاقا للتجارة الحرة وبرنامج دعم الخدمات التنافسية. وتهدف الاتفاقية الى تعزيز مواجهة تحديات النمو الاقتصادي والتنمية في تونس من خلال تمديد القدرة التنافسية التي يشار إليها على وجه الخصوص، بما في ذلك في قطاع الصحة.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي