No Script

رؤى / العالم الروائي... المفهوم والماهية

تصغير
تكبير
شتان بين رؤيتين لأعمال المبدع الأدبي- شاعرا كان أو ساردا- الرؤية الأولى تقف عند حدود الأعمال التي يقدمها على مدى سنين، فتنظر في أجواء العمل على حدة، وإذا تطورت فهي تقارن بينه وبين الأعمال السابقة من حيث الجودة والإضافة الإبداعية، ولا تهتم كثيرا بالأبعاد النفسية والذاتية للمبدع والمجتمع ولا تطورات الزمن وظروف العصر وسياقات التلقي. أما الرؤية الثانية فهي تنظر إلى مجمل أعمال المبدع، وتبحث في تكوينه الشخصي والعقلي والفكري والحياتي، وتسعى إلى فهمه فهما شاملا، وتأخذ في اعتبارها العصر الذي عاش فيه والمجتمع المعبر عنه، وأيضا طبيعة المتلقي والتلقي على السواء فيما يستساغ أدبيا.

إن الرؤية الثانية هي المستهدفة في هذا المقال، في محاولة تجميع الشذرات، وفهم المتناثر، وربط المتواليات، وقراءة الأدب في ضوء مسيرة المبدع الحياتية، وما اعتورها من تبدلات وتغيرات في الأفكار والتوجهات. ولا نزعم بالطبع الإحاطة ولا الاستيفاء، بقدر ما هو سعي إلى مناقشة إجمالية، بعيدا عن الوقفات الجزئية.

مفهوم العالم الروائي:

المقصود بمصطلح «العالم الروائي أو السردي» هو: أجواء السرد والحكي عند السارد، والتي تشمل المكان والزمان والشخصيات والرؤية. فالروائي/ السارد مثل الإنسان العادي، يبدع سرده عن المحيط الإنساني القريب منه، والذي تفاعل مع شخصياته وعاصر أحداثه، وعلى دراية بتفاصيل المكان الجغرافية والمادية. فالسارد إذا حكى عما رآه وألفه، جاء سرده حميميا صادقا، وإن بدل وغيّر وأنقص وزاد فيما أبدع، وكذلك الإنسان العادي- خاصة الذي يمتلك براعة الحكي الشفاهي– يحكي بدقة ودراية عما شهد أمام عينيه وكان حاضرا فيه. مع الأخذ في الحسبان أن الحميمية اللصيقة بالحكايات والبشر متفاوتة وبنسب مختلفة، تأتي على قدر تعمق السارد، وقربه من عالمه المكاني، ودقة ملاحظاته، وقوة ذاكرته، وعنايته بالتفاصيل، وفهمه للشخصيات، وأيضا امتلاكه لمهارات السرد لغة وبناء للأحداث وتشويقا في الحكي؛ فيأتي النص السردي متميزا صادقا معبرا.

ولننظر إلى أبرز الأعمال الروائية التي خلّدها الدهر، لنجد أن تلك السمات متوافرة بها، فالرواية/ السرد الذي يكون بلا تفاصيل، ولا شخصيات معمقة، ولا أحداث متتابعة ولا رؤية مؤطرة؛ يؤدي في النهاية إلى أدب مسطح سرعان ما تخبو جذوته، ويذوي أثره بمرور السنين، وإن نال مقروئية يوما ما.

وهناك دائرة أخرى تضاف إلى العالم الروائي، وهي دائرة القناعات الفكرية والإيديولوجية التي تؤطر عمل المؤلف، وتنتثر في ثنايا أسطره، وتظهر في رسائل النص، فمن كان ذا توجه اجتماعي يساري، بدا مدافعا عن الفقراء والمهمشين والمطحونين، وتأتي رؤاه واختياراته ضمن هذا التوجه، ومن كان ذا توجه يميني/ ليبرالي، ينتصر للحريات الشخصية وحقوق الإنسان، ومن كان ذا توجه ديني إسلامي فهو يعلي من الروحانية والقيم الدينية والأخلاق السامية، ومن ثم تأتي اختيارات المبدع إذا أراد أن يبحر في التاريخ، فيختار ما يتوافق مع هذه القناعات الفكرية. ونفس الأمر مع المؤلفين القدامى في القرون الماضية، فلا يمكن فهم الجاحظ مثلا في سردياته الرائعة، بمعزل عن ثقافته العميقة، وتكوينه الفكري وإيمانه بالمعتزلة، ولا يمكن فهم أجواء رسالة الغفران، دون الوقوف على فلسفة مؤلفها الشاعر أبي العلاء المعري، وهي فلسفة عميقة تعكس موقفه من الحياة والموت والشعراء والأدب عامة. ويمكن القول: إن المؤلف الذي بلا إيديولوجية وفكر، هو أشبه بحاطب ليل، يجود بما يأتي به عقله، وتقع عليه عيناه، دون منهجية فكرية واضحة، لذا يكثر التناقض في مؤلفاته، وتتعدد تقلبات حياته وأفكاره.

مراحل السرد والسارد:

بلا شك هناك مراحل عديدة في حياة كل سارد، تتفاوت حسب مراحله العمرية وتجاربه الحياتية، وتبدّل ما يؤمن به، واتساع رؤاه، فالمبدع في بداياته الأولى يختلف عما يقدمه في وسط عمره وفي آخره، بجانب تعمق تجربته، وزيادة حنكته ومهاراته في السرد: على المستوى اللغوي باتساع قاموسه، أو البنائي بتعدد أشكال أطره السردية: قصة، رواية، مسرح... إلخ، وكذلك امتلاكه مهارات التشويق. ومن الخطأ قراءة المبدع قراءة كلية، مع إهمال شرطها التاريخي، وظروف تأليفها، وعمر المؤلف وقتها، وثقافته اللغوية والفنية ونضجه الفني. فهناك دراسات تقف عند ظاهرة أو بعد أو اتجاه مضموني أو شكلاني في أعمال المبدع، ولا تلتفت كثيرا إلى توقيت إبداع النص في عمر الأديب وكذلك إلى عصره، فتتعامل مع الأعمال الكاملة بوصفها كلا واحدا، مكتوبة في زمن واحد وعمر واحد أو هكذا تفترض وتضع في حسبانها أو على الأقل تتغافل عن هذه العوامل.

كما يتقاطع مع هذه المراحل عرضيا/ أفقيا أبعاد أخرى مثل الانحيازات الثقافية والاجتماعية مثل سرده عن أبناء المدن أو القرية، واحتفائه بشريحة اجتماعية من دون أخرى، وتهميشه أو تفخيمه لطائفة وأقلية دون غيرها وهكذا، وقد حلل بعض النقاد أعمال الفيلسوف الفرنسي سارتر وموقفه معروف من قضية الجزائر وتأييده لشعبها ورغبته في الاستقلال عن فرنسا، ولكن بالتمعن في مسرحياته ورواياته، نجد أن العربي الجزائري يظهر دوما خادما أو فقيرا أو إرهابيا أو مخادعا، وعلى العكس تظهر شخصية اليهودي مفكرة مبدعة، مؤثرة في مجتمعها. وبعبارة أخرى يمكن أن نكشف انحيازات المؤلف الاجتماعية من خلال إبداعه ذاته.

وهناك أيضا، انحيازات جمالية للمبدع ذاته، فهناك من يجعل الرواية والقص خيارا شكليا له، وهناك من يعدّدها،لتشمل تجربته الشعر والقص والمسرح، وهناك من يضيف إليها الكتابة للسينما والإذاعة والتلفاز، وكل خيار له مزاياه، وله أيضا عيوبه، فاتساع أوعية الإبداع أمام المبدع يثري تجربته ويعمقها جماليا، ولكنه قد يشتت مشروعه الأدبي بين خيارات عديدة، مثل تجربة عبد الرحمن الشرقاوي، وهي على اتساع أشكالها، ضعيفة في بعض نتاجها مثل الشعر، وقليلة في محصولها مثل الرواية، وأكثرها كان في مجال الكتابة الفكرية التي اهتم بها في آخر حياته.

أما اقتصار المبدع على شكل أدبي بعينه فيعني حبس خياله الفني في دائرة محدودة، يفكر من خلالها، ويبدع عبر آلياتها، فالمبدع يتخيل فيما يجيده، أو يمكنه إجادته والتعبير من خلاله، فهو يبرع فيه بالفعل، وإن كان يكرر نفسه بشكل أو بآخر، ولا يخرج كل ما في جعبته، من تجارب ورؤى وخيالات.

Mostafa_ateia123@yahoo.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي