No Script

نفسياسي

الحياة... بعد الأربعين!

تصغير
تكبير

مازلت أتذكر أيام كنت صغيراً، صغيراً بما فيه الكفاية للنظر لأقاربي ممن بلغ الثامنة عشرة واستخرج رخصة لقيادة السيارة... على أنهم كبار... كثيراً!
 لن أبالغ في وصف مميزات الزمن الذي مضى وأتغنى بعصر انتهى، له ما له وعليه ما عليه، إلا أن تصاريف الزمان تثير في نفسي دهشة كبيرة، فبحسبة بسيطة، أجد نفسي وقد وصل بي العمر لأن أكون أكبر حالياً في السن مما كان عليه والدي ووالدتي وكثير من أقاربي عندما مرت بهم تجارب مؤثرة. فوالدي الراحل لم يتجاوز الحادية والعشرين عندما أنجبني، ووالدتي لم تتجاوز العمر نفسه عندما فقدت شقيقي في حادث مأسوي، وكلاهما لم يتجاوزا بداية الثلاثينات من عمرهما عندما وقعت كارثة الغزو!
كل تلك التجارب وغيرها مرت بأقاربي في عمر كنت أنظر له على أنه عمر كبير وبعيد عني، وكنت أتساءل دوماً عما ستكون عليه الحال عندما أصل لعمرهم وأرى الحياة من زاويتهم، ومازلت أتذكر ابتسامة والدتي عندما أسر إليها بتساؤلاتي تلك وهي تتمتم بصوت منخفض... «لاحق على هالسوالف»، مؤكدة لي أن العمر سـ «يعدي» سريعاً وسأجد نفسي كهلاً فجأة، وعندها سأرى نفسي مازلت صغيراً، و«ما شفت شيء في الدنيا»... وكم كانت والدتي محقة!


نعم كانت محقة، فالأيام تسابقت في رسم خطوطها وملامحها على وجهي وبياض شعري، حتى أفقت فجأة على حقيقة أنني قد تجاوزت عتبة السنين الأربعين بقليل، وهو عمر مفصلي كنت أقرأ الكثير من النصوص الدينية والروايات المختلفة حوله وأتخيل حقيقته وكنهه، حتى إذا وصلته تبين لي أن الكثير مما قيل عنه هو صحيح تماماً... والكثير أيضاً... غير صحيح!
 فهمت الآن لماذا يعتبر الكثيرون هذا العمر بمثابة المحطة التي تنتصف مسار الأفراد. فبمجرد وصولك لسن الأربعين، تبدأ الأمور كلها بتوضيح نفسها أمامك بما يمكنك من قراءة الماضي وفك شيفرته وفهم تعقيداته، لتشطب من حياتك الكثير مما علق بها من تجارب واهتمامات، وأفراد أحياناً، تبين لك ضررهم أو عدم فائدتهم، لتبدأ مسار النصف الثاني من حياتك بنضج يتوجه الاهتمام بالأشخاص والأمور ذات الأهمية الحقيقية في تقدير الفرد منا، فـ «ما عاد في العمر كثر اللي راح» لنشغل أنفسنا بما ليس منه فائدة أو بمن لم نتلق منهم غير الألم والإحباط!
 الملفت لنظري أيضاً، هو أن هذا الشغف بالأعمار التي لم أصل إليها ما زال مستمراً، فمازلت أجول بالنظر في حياة كبارنا أطال الله في أعمارهم، متسائلاً عما يمكن أن تكون عليه حياتهم ونظرتهم للأمور في عمر السبعين والثمانين، لكن الفرق الآن هو أنني أدرك أن التفكير الطويل في ذلك الأمر لن يوصلك للنتيجة الشافية كما ستفهمها عندما تصل حقيقة لذلك العمر، مسترشداً بتمتمة والدتي الغالية وهي تقول مع دعائها لي بطول العمر...
«لاحق... على هالسوالف»!

alkhadhari@gmail.com
Twitter: @dralkhadhari

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي