No Script

وراء عودة نغمة التوطين في لبنان

تصغير
تكبير
تعود نغمة التوطين بين حين وآخر الى لبنان. تستخدم هذه النغمة بغية الهرب من المشكلة الأساسية التي يعاني منها البلد منذ العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي شرّع السلاح الفلسطيني. لا يستخدم نغمة التوطين حاليا الّا من يريد التغطية على السلاح المذهبي التابع لإيران الذي تستخدمه ميليشيا ذات عناصر لبنانية من اجل تدمير مؤسسات الدولة الواحدة تلو الاخرى.

كان خطاب الرئيس دونالد ترامب امام الجمعية العمومية للأمم المتحدة مناسبة لعودة نغمة التوطين، علما ان الرئيس الاميركي لم يتطرّق في خطابه الى ايّ توطين من أي نوع كان بل شكر لبنان، مع تركيا والأردن، على استضافة نازحين سوريين مبديا تفهّمه للاعباء التي تتحملها الدول الثلاث مع تشديد على ضرورة إيجاد الوسائل كي يعود النازحون السوريون الى بلدهم والمساهمة في اعادة اعماره.


لم تكن تلك المرّة الاولى التي يستخدم فيها التوطين في السياسات الداخلية اللبنانية. الهدف واضح كلّ الوضوح وله شقان. الاوّل تفادي البحث الجدي في المأساة اللبنانية التي في أساسها سلاح «حزب الله»، وريث السلاح الفلسطيني، وتورطه في الحرب على الشعب السوري، والآخر استخدام بعبع التوطين لاخافة المسيحيين اكثر، خصوصا ان معظم السوريين الذين نزحوا الى لبنان هم من اهل السنّة.

في الواقع، المطلوب تخويف اللبنانيين من سعد الحريري، لاسباب مرتبطة بالحملة التي تشهدها المنطقة على اهل السنّة والتي من معالمها تدمير كلّ المدن الكبيرة، ان في العراق او في سورية... او تغيير طبيعة هذه المدن وصولا الى مدن لبنان حيث نشهد حاليا بعضا من فصول هذه المأساة.

في الماضي، كان يجري تخويف المسيحيين في لبنان من رفيق الحريري. حدث ذلك، علما ان العدد الأكبر من المسيحيين الذين عادوا الى ارضه، بعد تهجيرهم منه خلال الحروب التي كان البلد مسرحا لها، كان في الايام التي كان فيها الحريري الاب رئيسا لمجلس الوزراء. هل من يريد التحدّث بلغة الأرقام ونسبة نموّ الاقتصاد اللبناني في تلك المرحلة، ام ان الجهود تبذل مجددا من اجل التغطية على الأسباب الحقيقية لجريمة الرابع عشر من فبراير 2005 التي ذهب ضحيتها رفيق الحريري ورفاقه؟

هناك كثيرون يثيرون للأسف الشديد، مسألة الدين العام للبنان متجاهلين من يقف حقيقة وراء هذا الدين في مرحلة الوصاية السورية. كان موضوع الدين العام يصلح أحيانا للتغطية على ما هو مطلوب التغطية عليه. لكنّ موضوع التوطين ترافق مع كلّ الاحداث اللبنانية منذ العام 1969، وشكل الغطاء الدائم للتعمية على السلاح غير الشرعي الذي هدّد في الماضي ولا يزال يهدّد الأسس التي تقوم عليها الجمهورية اللبنانية.

من المهمّ السعي الى توعية اللبنانيين، خصوصا المسيحيين منهم، الى ان كلّ كلام عن التوطين لا معنى له. من عمل على التوطين في أواخر ستينات القرن الماضي وطوال السبعينات هو النظام السوري الذي اغرق لبنان بالسلاح وبالمقاتلين الفلسطينيين الذين طردوا من الأراضي الأردنية اثر احداث 1970 او ما يسمّى «سبتمبر الأسود». كان هدف النظام السوري في كلّ وقت اثارة صدامات بين الميليشيات المسيحية، التي كان رفض التوطين من بين شعاراتها، من جهة والتنظيمات الفلسطينية من جهة أخرى وبين المسيحيين والمسلمين في لبنان. كان مصدر السلاح واحدا. كان هذا السلاح يأتي في معظمه من الأراضي السورية. اما المطلوب فكان في غاية الوضوح. كان مطلوبا وقتذاك استغلال النظام السوري للحرب بين المسيحيين والفلسطينيين من اجل تبرير استدعائه الى لبنان لاخماد الحريق فيه...

منذ سبعينات القرن الماضي، لم يتغيّر شيء في لبنان، خصوصا في العقل المسيحي الذي يتمتع بسذاجة ليس بعدها سذاجة. تمنعه هذه السذاجة حتّى من قراءة نصّ خطاب الرئيس الاميركي ومحاولة فهم ما الذي يسعى فعلا الى قوله واستيعاب ذلك بكلّ ابعاده.

من الضروري بين حين وآخر، تذكير اللبنانيين بالاشاعة التي انتشرت في صفوف المسيحيين عن انّ المبعوث الاميركي دين براون، الذي جاء الى بيروت في أواخر العام 1975، اصطحب معه سفنا لا مهمّة لها سوى نقل مسيحيي لبنان الى الولايات المتحدة وغيرها. صدّق كثيرون هذا الكلام الذي لا أساس له والذي تبيّن ان هدفه تعزيز صفوف الميليشيات المسيحية التي لم تكن تدري انّها تعمل في حقيقة الامر في خدمة النظام السوري واطماعه.

لم يأت دين براون الى لبنان الّا بهدف واحد كلّفه به هنري كيسنجر، وزير الخارجية وقتذاك. طلب كيسنجر من دين براون «خلق اكبر كمية من الدخان» لاظهار الولايات المتحدة في مظهر من يسعى الى وضع حدّ للحرب في لبنان وانّها تبذل جهودا من اجل ذلك.

من اين جاءت فكرة السفن التي رافقت براون والتي ستجلي المسيحيين اللبنانيين؟ لا جواب حتّى يومنا هذا، علما ان كلّ من يعرف، ولو القليل عن مداولات براون مع المسؤولين اللبنانيين، يؤكد ان موضوع السفن لم يطرح ولا شيء آخر من هذا القبيل. انتهى الامر بان وافقت الإدارة الأميركية على دخول القوات السورية الى لبنان بعد حصولها على ضوء اخضر إسرائيلي.

قال كيسنجر لدين براون بعد عودة الأخير الى واشنطن: «ستدخل القوات السورية الى لبنان وستضع يدها على كلّ القواعد التي يتمركز فيها مسلحو منظمة التحرير الفلسطينية». كانت الخطة تقضي أساسا بان يسيطر الجيش السوري على كلّ لبنان، وصولا الى الحدود مع إسرائيل التي ما لبثت ان وضعت الخطوط الحمر للنظام السوري. كان بين هذه الخطوط الحمر عدم تجاوز نهر الاولي. طلبت إسرائيل بقاء المسلحين الفلسطينيين في جنوب لبنان «نظرا الى حاجتها للاشتباك معهم بين حين وآخر». تبيّن ان هذا الوجود الفلسطيني المسلح كان في خدمة إسرائيل وما تخطط له فعلا.

تلهّى اللبنانيون وقتذاك بنغمة التوطين. كانت النتيجة، على ارض الواقع، سيطرة النظام السوري على لبنان. وهي سيطرة اكتملت في خريف العام 1990 عندما سمحت اميركا للجيش السوري باجتياح قصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة.

هناك الآن من يريد ان يتلهى اللبنانيون بالتوطين كي يغيب عن بالهم ان المشكلة الأساسية في البلد هي في السلاح غير الشرعي الذي يدمّر بطريقة منهجية مؤسسات الجمهورية، وما بقي منها على الاصحّ.

هناك واقع يتمثّل في ان من بين أسباب هذا النزوح السوري الى لبنان، تورط «حزب الله»، بناء على طلب ايران في الحرب على الشعب السوري. ليست عودة نغمة التوطين سوى خدمة لمآرب أخرى تشبه مخطط حافظ الأسد القاضي بوضع يده على القرار الفلسطيني وعلى لبنان في الوقت ذاته.

من يسعى هذه الايّام الى وضع يده على لبنان؟ الجواب ليس صعبا والاجابة عنه خطوة أولى على طريق فهم ما الذي يعدّ حقيقة للبنان ولماذا كلّ تلك المناورات التي لا يستطيع العقل المسيحي اللبناني، في مجمله وليس كلّه، استيعاب تعقيداتها وانعكاساتها بعدما جمع بين السذاجة وقصر النظر والاستسلام للغريزة الطائفية... ورفض تعلّم القراءة في آن.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي