No Script

«نتكلّم»... تعلّم اللغة العربية من اللاجئين

تصغير
تكبير
من أجل مساعدة اللاجئين على الاستقرار في مناطق إقامتهم الجديدة، لابد من منحهم السبل التي تمكنهم من المساهمة في تطوير مجتمعاتهم الجديدة وكسب المال اللازم لمعيشتهم... تريسكا حميد أجرت تحقيقاً عن مجموعة تسعى إلى تحقيق ذلك من خلال استخدام مهارات الناس التعليمية وخبراتهم اللغوية.

عادت محنة اللاجئين إلى واجهة النقاش مرة أخرى في ضوء موجة من الحركات الشعبوية التي تستفيد من ردود أفعال الناس غير المتوقعة في ما يخص قضايا النزوح والهجرة. وفي كثير من الأحيان، نجد أن وسائل الإعلام تنقل صورة اللاجئين بالأسود والأبيض فقط - فهم إما ضحايا العوز الشديد أو غرباء يجلبون مشكلاتهم الخاصة بهم إلى البلدان التي يستقرون فيها. وتنتج عن هذه الصور الإعلامية النمطية انطباعات لدى الناس بأن المعاناة والفقر يسيران جنبًا إلى جنب مع الجهل والافتقار إلى التعليم.


هذه ليست سوى صورة غير عادلة للوضع. ففي حين أن من الصعب قياس المستوى التعليمي لما يقارب خمسة ملايين لاجئ سوري، إلا أن إحصاءات معهد سياسات الهجرة في واشنطن تبيّن أن 39 في المئة من السوريين الذين استقروا في الولايات المتحدة هم من حملة الشهادات الجامعية.

ومن هنا جاءت فكرة تأسيس «نتكلّم»، وهي عبارة عن منصة إلكترونية تُعنى بمنح المتعلمين من اللاجئين السوريين فرصة لكسب الأجر الذي يُمكّنهم من العيش الكريم. وتسعى هذه المنصة التي أنشأتها ألين سارة، اللبنانية المولد، إلى إيجاد حلقة وصل بين النازحين السوريين والأشخاص الذين يدرسون اللغة العربية بهدف تعلم المهارات اللغوية عبر برنامج «سكايب».

من جهة أخرى، تتيح «نتكلّم» لمستخدميها فرصة إجراء المحادثات العادية بأسعار في متناول الجميع. كما أنها تعمل اليوم مع كبرى الجامعات في الولايات المتحدة كي تتحول إلى منبر تعليمي، ليس لدروس اللغة فقط، وإنما أيضًا لبناء حوار بين اللاجئين والطلاب في كل أنحاء العالم.

مثل الكثير من العرب الذين ينشأون في الخارج، كانت اللغة العربية في آخر أولويات سارة التي تتحدث الفرنسية والإنكليزية بطلاقة أكبر. وبعد إنهائها درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة كولومبيا في نيويورك، سعت سارة إلى العمل في منظمة غير ربحية بدلًا من أن تبدأ عملها التجاري الخاص.

عن تلك المرحلة قالت سارة: «كنت أبحث عن فرص العمل في الشرق الأوسط لكن جميعها كان يتطلب إتقان اللغة العربية، ولكن كل الخيارات المتاحة لتعلّم هذه اللغة كانت مكلفة للغاية، حيث تتراوح تكلفة الدروس الخصوصية بين 70- 80 دولاراً أميركياً للساعة الواحدة، وأنا أريد شخصاً لأتحدث معه فقط كي أحافظ على لهجتي الشامية».

في حين يصعب الحصول على أرقام وإحصاءات دقيقة، إلا أن عدد اللاجئين السوريين في لبنان اليوم يصل إلى مليون لاجئ تقريباً. ولا يُسمح لغالبية هؤلاء اللاجئين بالعمل بشكل قانوني، الأمر الذي يدفع الكثيرين منهم إلى امتهان وظائف منخفضة الأجر مثل التنظيف والنجارة، والتي «لا تعكس المواهب والمهارات» التي يتمتع بها اللاجئون السوريون المتعلمون، من وجهة نظر سارة.

بالنظر إلى كل هذه المحن والمعاناة التي يواجهها هؤلاء المثقفون السوريون، شعرت سارة بتعاطف كبير معهم، وتمنّت أن يكون لها دور في مساعدتهم، وهكذا بدأت فكرة «نتكلّم» تتبلور في ذهنها.

بالنسبة للعديد من طلاب اللغة العربية في الغرب، كانت دمشق واحدة من أفضل الأماكن لدراسة اللغة العربية. وكان المعهد الفرنسي للدراسات العربية في العاصمة السورية يضطلع بمكانة مرموقة ويقصده الطلبة من جامعة اكسفورد إلى جامعة هارفارد لدراسة اللغة العربية الفصحى لمدة عام كامل، في الوقت الذي يتعلمون فيه اللهجة المحلية من الحياة اليومية.

ومنذ بداية ما يسمى بـ «الربيع العربي»، بات العديد من المؤسسات تتردد في إرسال طلبتها إلى الخارج وتعطيل تعليمهم في جو غير مستقر. وفي حين استأنف عدد قليل منهم إرسال الطلبة إلى مصر وتونس، ظلت سورية، كما هو متوقع منطقة محظورة.

وتابعت سارة: «فكّرت أنه في ظل هذا الاهتمام الكبير بلغة التخاطب العربية وبوجود كل هؤلاء السوريين المؤهلين والمثقفين، قد يكون من الممكن الاستعانة بهم ليصبحوا شركاء في تعليم الناس اللغة من خلال المحادثة». ولابد من الإشارة هنا إلى أن «نتكلّم» لا تعطي دروسًا في اللغة العربية، وإنما تهتم بمنح فرصة إجراء محادثات بين الأشخاص الذين يعرفون القليل من اللغة العربية ولكنهم يهتمون في شكل رئيسي بإتقان التخاطب.

«خطرت لي الفكرة في سبتمبر 2014 وعندها كانت مجرد مزحة لأن الشيء السائد في ذلك الوقت كان إطلاق شركة أعمال ناشئة. ونظرًا لكوني عملت في المجال الإنساني، لم تكن الشركات الناشئة خياري المفضل»، كما أكدت.

انتظرت سارة حتى فبراير 2015 لتتخذ قراراً نهائياً بتحقيق فكرتها، وذلك بعد أن تلقت رسالة بالبريد الإلكتروني من جامعة كولومبيا تعلن فيها عن مسابقة سنوية للشركات الناشئة. كانت المسابقة مفتوحة أمام الخريجين، وكان هناك مسار للمنظمات غير الحكومية وريادة المشاريع الاجتماعية.

«عندئذ رأيت فرصة لتطبيق الفكرة وقلت لم لا! لم أكن أعرف شيئاً، لم تكن لي دراية بالأساسيات مثل تكلفة رأس المال وغيرها. لذلك، تحدثت مع بعض الأصدقاء الذين ساعدوني في تطوير الفكرة وقمنا بتقديم الطلب».

وبالفعل، عملت سارة مع زملائها السابقين في جامعة كولومبيا، وهم رضا رحنيما وانطوني جوبيدجيان، للمشاركة في تأسيس «نتكلّم» ووصلوا معاً إلى الجولة التالية من المسابقة، لكن لم يحالفهم الحظ في المراحل المتقدمة. في المقابل، توجّه تركيزهم نحو منافسة يعقدها البنك الدولي للمشاركين من لبنان، ومصر، وجيبوتي ووصلوا هناك إلى الدور قبل النهائي. لكنهم اضطروا هذه المرة لتحويل أفكارهم إلى شركة أعمال فعلية من أجل التأهل للنهائيات. وهكذا، عملت سارة مع منظمة «سوا» غير الحكومية للعثور على بعض اللاجئين السوريين الذين كانوا يتقنون اللغة الإنكليزية ولديهم مهارات التواصل مع الآخرين.

انطلق البرنامج التجريبي مع سبعة أشخاص كانوا يدرسون اللغة العربية مع اللاجئين السوريين في يوليو عام 2015، وبدأت مؤسسة «نتكلّم» في التبلور. وقالت سارة: «قررت الاستمرار في مشاركة موقعي الإلكتروني التجريبي مع الأصدقاء في منتصف أغسطس وفي غضون أسبوع واحد انتشر بشكل كبير جداً».

ففي ذلك الأسبوع، اشترك 150 شخصاً مع «نتكلّم»، ما دفع الشركة لإطلاق نفسها رسمياً بعد أن سجلت اسمها في أكتوبر من ذلك العام.

ويصل عدد مستخدمي «نتكلّم» اليوم إلى 1000 مستخدم متميّز ممن يشاركون من 60 بلداً حول العالم في أكثر من 9000 ساعة من المحادثات مع 35 شريك محادثة من اللاجئين السوريين. وتبلغ تكلفة كل جلسة 15 دولاراً أميركياً، يتم منح 10 دولارات منها للشريك (اللاجئ) السوري.

وعن ذلك توضح سارة: «نحن نحاول إعطاء اللاجئين الحد الأدنى للأجور في لبنان، التي هي في حدود 400 دولار أميركي شهرياً».

وتتواجد غالبية النازحين السوريين الذين يعملون مع «نتكلّم» في لبنان مع وجود آخرين غيرهم في العراق، والبرازيل، وتركيا. وكانت ردود فعل المستخدمين إيجابية في معظمها، وكان بعضهم مضطراً لمواجهة الأحكام المسبقة الخاصة به حول اللاجئين خلال هذه العملية.

وروت فالنتينا كانتوري، التي تعيش في الولايات المتحدة، تجربتها الخاصة قائلة: «منحتني «نتكلّم» فرصة لا تقدر بثمن ليكون لديّ شريك محادثة سوري رائع وهو لا يشارك لغته فحسب، ولكن أيضاً يشاركني اهتماماته الشخصية وتاريخه باعتباره لاجئاً يعيش في لبنان. هذا المشروع ليس مجرد تبادل للغة، بل هو جسر يربط بين ثقافتين. وهو شيء نحن بأمس الحاجة إليه في هذه الأيام».

وتأمل سارة بمساعدة المزيد من اللاجئين في العالم العربي كونهم لا يحظون عادة بالمساعدة الكافية من الحكومات. وتتوجه المنظمات غير الحكومية نحو توفير المساعدات للاجئين الأكثر ضعفاً، بينما لا يتم الالتفات غالباً لأولئك الذين يدبرون شؤون معيشتهم بشق الأنفس.

«نهدف إلى التأثير على حياة 100 لاجئ بحلول نهاية هذا العام»، كما قالت سارة، مع التركيز على أولئك «الذين يدبرون شؤون معيشتهم بشق الأنفس»، بدلًا من أولئك الأكثر ضعفا الذين يمكنهم الحصول على مساعدة من المنظمات غير الحكومية. وأضافت: «يمكننا التواصل مع الأشخاص الذين يحملون شهادة الدكتوراه في الفيزياء على سبيل المثال؛ فهم يمتلكون مؤهلات عالية لكنهم ما زالوا يعانون. ونحن بدورنا نمنحهم فرصة».

تعمل «نتكلّم» في الوقت الحالي مع الجامعات في الولايات المتحدة لتطوير مهارات التحدث لطلبة اللغة العربية، وتعزيز تبادل الثقافات للمساعدة في كسر الصور النمطية السلبية، وتغيير الصورة المعهودة حول اللاجئين والمهاجرين.

وقد عقدت المنصة الإلكترونية المبتكرة شراكات مع جامعات تافتس، وجورج واشنطن، ونيويورك، وجورج تاون، وديوك، وغيرها. كما تتعاون «نتكلّم» مع معهد تعلم العربية في جامعة كورنيل لتدريب شركاء المحادثة السوريين على مناهج المعهد الدراسية لتمكينهم من تعليم اللغة العربية لمستوى الطلبة المبتدئين.

تثمر مثل هذه الشراكات الواعدة مع الجامعات عن تحقيق تدفق أكثر تنظيماً لعمل مؤسسة «نتكلّم» بدلًا من الاعتماد على المستخدمين الذين قد يهتمون بخدماتها لفترة قصيرة من الزمن ثم يفقدون الاهتمام.

تتأقلم سارة مع دورها في ريادة الأعمال، وتبحث عن الاستثمار بهدف توسيع نطاق عملها التجاري وتنميته. حتى الآن، تعتمد «نتكلّم» على التمويل الذاتي وتحصل على بعض المساعدات من المنح والأموال المقدمة، وقد حازت أخيراً على المركز الأول في مسابقة قمة الشباب التابعة للبنك الدولي في نوفمبر العام 2016، ولكنها تسعى الآن إلى جمع المزيد من الأموال.

تحلم ألين سارة بمزيد من التطوير لمنصتها الإلكترونية، قائلة: «لا يقتصر هدفنا على المدى الطويل على تضمين اللهجات العربية والمجتمعات المحلية الأخرى، وإنما نسعى إلى إدخال لغات أخرى أيضًا. ذلك لأن تعلم أي لغة سيكون دائمًا أمرًا مختلفًا ومثيرًا للاهتمام».

* متخصصة في قضايا وشؤون الشرق الأوسط
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي