No Script

«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا»... سلسلة مفتوحة تستكشف دهاليز الاعتلالات السيكولوجية والذهنية والسلوكية

هَوَس الكَذِب... قهريّ أم اختياريّ؟

تصغير
تكبير

ما من شك في أن الكذب من أرذل الصفات التي يمكن أن يتصف بها أي إنسان، ولا سيما عندما يكون خلقا ملازما لمعظم أقواله وأفعاله. وجميع الأديان السماوية والوضعية من دون استثناء استقبحت الكذب وحذّرت منه واستنكرته بأشد العبارات، ومن ذلك قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في سياق حديث له: (...وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا).
وفي مجال علم النفس، تم تشخيص حالات كثيرة في نطاق اللجوء إلى الكذب، بما في ذلك حالة حادة ومستعصية تُعرف بـ«هَوَس الكَذِب» أو الـ«ميثومانيا» (mythomania)، وهي حالة يلجأ المصاب بها إلى الكذب معظم الوقت ومن دون أن يكون هناك أي مبرر أو تهديد أو إغراء يضطره إلى ذلك.
وصحيح أنه لم يتم حتى الآن التوصل إلى جواب حاسم للخلاف القائم بين اختصاصيي الطب النفسي حول ما إذا كان «هَوَس الكَذِب» هو سلوك قهري أم اختياري، لكننا قد نقترب من الإجابة إذا نظرنا إلى القضية في ضوء نظريات علم النفس وضوء الحديث النبوي المذكور آنفا، حيث يمكننا القول إن المريض يبدأ المسيرة بممارسة الكذب اختياريا وبإرادته في مواقف متفرقة، ثم يواظب عليه في معظم مواقف حياته، ثم يكثف وتيرته، ثم يستمر في ذلك الاتجاه إلى أن يصل إلى «الانزلاق» على منحدر «هَوَس الكَذِب» في نهاية المطاف فيصبح غير قادر على السيطرة على جموح تلك العادة القبيحة. وبتعبير آخر، فإن الرحلة تبدأ بالكذب اختيارياً، ثم تتطور وتتفاقم حتى تخرج عن سيطرة الشخص فتكون النتيجة أنه يمارس الكذب بشكل «قهري».

فإلى تسليط مزيد من الضوء على هذا الحالة النفسية والسلوكية...

تعريفات... وتوصيفات
وفقا لمراجع الطب النفسي، هناك تعريفات وتوصيفات علمية عدة لحالة «هَوَس الكَذِب» لكن جميع تلك التعريفات تدور في فلك كونه سلوكا يتسم صاحبه بالكذب «قهريا» أي على نحو تلقائي ومن دون أن يكون هناك أي دافع يبرر ذلك. وقد يكون المريض إما مدركًا أنه يكذب، أو قد يصل به الحال إلى أن يصبح متوهما أنه يقول الصدق. وفي الحالة الأولى يعترف بكذبه عند مواجهته، بينما في الحالة الثانية إلى الإنكار التام.
ووفقا لتعريف مجلة «سايكياتريك تايمز» المتخصصة في علم النفس، فإن هَوَس الكَذِب هو «عادة الكذب الدائم من دون أي حاجة اجتماعية خارجية أو نفسية أو فائدة معينة قد يحققها ذلك الكذب».
لذا، فإن الحالة المرضية لا توصف بأنها تندرج ضمن «هَوَس الكَذِب» إلا عندما تصبح نزعة الكذب واختلاق الأحداث مزمنة لدى الشخص، بحيث تصبح سمة ملازمة لشخصيته حتى في المواقف الاجتماعية والحياتية التي لا يحتاج فيها إلى قول غير الحقيقة. وبتعبير آخر، فإن الدافع للكذب يكون داخليا في نفس المريض وليس لسبب خارجي كالرغبة في تفادي عقاب أو السعي إلى نيل مكافأة مثلا.

التشخيص... مهمة صعبة
على الرغم من وجود إجماع بين اختصاصيي العلاج النفسي على تشخيص حالة «هَوَس الكَذِب» وعلى كيفية تشخيصها بأسلوب علمي، فما زال هناك خلاف في أوساطهم حول ما إذا كان ذلك السلوك هو «مرض لا يُلام المريض على أنه أصيب به» أم أنه «ينبغي أن يُلام المريض على أساس أنه يكذب باختياره وبإرادته الواعية».
وفي حالات غير قليلة، لا تكون مهمة تشخيص هَوَس الكَذِب سهلة، وذلك لأن الكذب المتكرر هو واحد من أعراض مشتركة بين عدد كبير من الاضطرابات النفسية. ولكن يتم تدريب الدارسين والأطباء النفسيين كي يتمكنوا من رصد الحالات وتشخيصها بدقة حتى لا تلتبس مع حالات نفسية أخرى.

مدى التفشي
وحتى الآن، لم يتم إجراء سوى دراسات محدودة حول مدى انتشار وتفشي حالات هَوَس الكَذِب ديموغرافيا. وهناك دراسة أميركية خلصت إلى مدى انتشاره يصل إلى ذروته بين فئة المراهقين الجانحين تحديدا، لكنه يبلغ في المتوسط العام حالة واحدة بين كل 10 آلاف من السكان عموما.
ووفقا لنتائج الدراسة ذاتها فإن متوسط عمر بداية هَوَس الكَذِب هو 16 عاما، ولوحظ أن 30 في المئة من المصابين ينتمون إلى بيئة أسرية مفككة ومضطربة اجتماعيا، حيث يكون أحد أفراد الأسرة مصابًا باضطراب نفسي أو سلوكي أو حتى ذهني. وكشف الدراسة عن أن 40 في المئة من مرضى هَوَس الكَذِب يعانون من اضطرابات مرتبطة بالجهاز العصبي المركزي، كالصرع ومتلازمة فرط الحركة وتشتت الانتباه.

تلفيقات مدهشة... بلا مبررات!
وفي معظم الحالات، تكون تلفيقات المصاب بهَوَس الكَذِب مثيرة لدهشة السامعين، ولكنها لا تتجاوز حدود المعقول، وقد تكون نابعة من أوهام في ذهن المريض أو ناجمة عن إصابته باضطرابات نفسية أخرى كالذهان أو النرجسية أو غير ذلك.
وبينما يكون الكذب غير المرضي ذا هدف يتمثل في محاولة الشخص الوصول إلى فائدة أو تفادي عقوبة، فإن هَوَس الكَذِب ينبع تلقائيا من دون أي مبررات ومن دون أن يستهدف الحصول على منفعة أو تفادي عقوبة، بل إن المريض قد يكون مدركا أن ذلك الكذب سيوقعه في مشاكل أو إحراج لاحقاً.

 أعراض... ونوازع

هناك أعراض معينة يحرص المعالجون النفسيون على رصدها في سياق سعيهم إلى تشخيص حالة «هَوَس الكَذِب»، وهي الأعراض التي ينبغي أن تتسم عادة بالتواتر والاستمرارية لدى المريض في شتى مواقف حياته. ومن بين أبرز تلك الأعراض نذكر التالي:
• يكون الكذب عفويا و«وليد اللحظة»، أي غير مخطط له مسبقا.
• الميل إلى اختلاق الأكاذيب باستمرار، سواء بسبب ومن دون سبب.
• اختلاق قصص من الخيال المحض أو مستندة إلى جزء من الحقيقة، وعادة ما تكون قصصا مبهرة ومثيرة للدهشة.
• تحوير وتحريف تفاصيل الحقائق والأحداث دائما عند نقلها إلى الآخرين.
• في معظم الحالات لا يكون هناك أي دافع أو مبرر خارجي للكذب، بل يكون نابعا من داخل الشخص.
• يكون الكذب عادة ثابتة لدى الشخص وفقا لنمط معين وعلى امتداد فترة زمنية معينة تزيد على 6 أشهر متواصلة.
• في معظم الحالات يكون المريض مصابا أيضا باضطراب النرجسية (الإعجاب المفرط بالنفس).
وقد رصد معالجون نفسيون عددا من النوازع الشخصية والنفسية الأخرى التي رجحوا أنها تلعب دورا في دفع الشخص إلى منزلق الكذب المرضي. ومن أهم تلك النوازع:
• الأنانية والغيرة المفرطة.
• العدوانية المؤذية.
• انحطاط الثقة بالنفس.
• فرط الغضب والتقلب المزاجي.
• الانعزالية الاجتماعية.
• النرجسية (الافتتان المفرط بالنفس).

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي