No Script

خواطر صعلوك

العمل اليدوي في المدارس

تصغير
تكبير

إن تفضيل الطالب القادر على إعراب جملة أو التعامل مع مسألة حسابية يقدمها له معلم الرياضيات داخل القاعة الدراسية على الطالب الذي يمتلك مهارات بدنية وحركية أو يدوية وفنية، لهو تفضيل أقل ما يقال عنه إنه غير مدروس!
بل ربما أخرج لك من بين السطور وأمسك بتلابيبك صارخاً فأقول إن الطالب القادر على رسم وتأطير وبَرْوَزَة خريطة الوطن العربي لمادة الاجتماعيات لاستخدامها كوسيلة تعليمية صفية، يمتلك قدرات معرفية ونشاطاً عقلياً أكثر من الطالب الذي يخرج أمام زملائه لكي يحدد على الخريطة موقع الدولة العربية الأكثر فشلاً في التعليم!
ليس السبب في فشل مخرجات التعليم والتهيئة لسوق العمل هو أننا ابتلينا بعذاب دون دول العالم الثالث، ولكن في الواقع أن عدم إقبال الكويتيين على الأعمال العملية أو البدنية أو اليدوية أو الفنية المهنية، ليس سببه فقط الرفاه الاجتماعي وعدم رغبة ابن القبيلة أو العائلة في سلك هذا المسار أو ثقافة الصحراء التي كانت تنظر لصاحب المهنة على أنه أقل درجة من الحكواتي أو الشاعر أو أي عمل أكاديمي حديث مثل المحامي أو المعلم أو القاضي أو المهندس، بل هناك سبب رئيسي آخر يتعلق بالحاضر، وهو أن المدارس والنظام التعليمي ينظر للأعمال اليدوية على أنها لا تمت بصلة للنشاط العقلي والذكاء أو القدرات المعرفية، وأنها لن تقدم مستقبلاً مشرقاً كتلك التي تقدمها المواد الأكاديمية التي تساعد الطالب في إعداد مقالة أو ورقة بحثية أو حل مسألة رياضية أو إعداد مذكرة دفاع عن لص تورط مع لصوص أكبر منه!


ويتناسى النظام، أو ربما يتجاهل، أن الدراسات العصبية والتنموية والتعليمية الحديثة تشير بكلتا يديها نحو أن الأعمال اليدوية بأنواعها يتجلى فيها التفاعل النشط بين الانتباه الشديد والتجريب المحدد والتفكير الدقيق والخيال الخصب، وهو ما يضاهي في تعقده وتشابكه وحنكته عملية التعلم الأكاديمي التي ينخرط فيها عالم ذرة كويتي يعد ورقة بحثية باستخدام استراتيجية حل المشكلات من أجل عمل تجربة آمنة على الطاقة الذرية في بلد ليس فيه قسم يعالج هذا التخصص أصلاً!
ودعني عزيزي القارئ أضرب لك مثالاً بسيطاً جداً يحاكي ما أقصده بمهارات العمل اليدوي وأهميته في التعليم.
إن رحلة عمل تطوعية لمدة يوم واحد إلى جمعية تعاونية مثلاً، يعزز من خلالها تنمية الذكاء الواقعي لدى مجموعة من الطلاب الذين تبلغ أعمارهم من 10 إلى 14 عاماً، أفضل بكثير من شهر دراسي داخل فصول مجهزة بـ «التابلت» و«الداتا شو»!
إن الطالب الجالس في الفصل الدراسي من أجل حل مسألة رياضية أو إعراب جملة نحوية أو تذكر مفهوم ما سواء كان بسيطاً أو شديد التعقيد، فهو في الواقع يركز ذهنه وعقله على مهمة محددة، لا يتعرض فيها لأكثر من خبرة تعليمية أو مواقف متنوعة، بينما مشروع عملي بسيط مثل رحلة عمل إلى جمعية تعاونية تقوم فكرتها على توزيع فصل دراسي كامل على وظائف مختلفة ومهن متنوعة داخل الجمعية التعاونية بالتعاون مع الإدارة وبما يحفظ معايير الأمن والسلامة وإمكانية تكريم المشاركين في طابور الصباح أمام زملائهم، وهي رحلة هدفها تعريض الطلاب لذكاء مهني يدمج التحديات المعرفية مثل التخطيط وتحديد الأولويات والحساب والتحديات البدنية والانفعالية والاجتماعية والأخلاقية... وهي كلها خبرات سيكتسبها تحت الضغط.... فما بين تذكر طلبات الزبائن والمشي بطريقة لائقة وضبط الجسد وآلياته لكي لا يتعب، ومعالجة التذمر الصادر من الزبائن... واستقبال المدح من الزائرين، والإجابة عن الأسئلة ورسم طريق مختصر لممرات الجمعية باستخدام الذاكرة التصويرية... وعملية استبدال الناقص والتعامل مع الفائض... ومساعدة الكاشير ورجل الأمن وبائع الأجبان والعلاقات العامة والعمال... عبر كل هذا سيكتسب الطالب مجموعة من المهارات المعقدة من خلال الممارسة والاحتكاك الاجتماعي والثقافي والإحاطة البسيطة بمعوقات وصعوبات كل مهنة على حدة.
ولكي لا نهمل الجانب الأكاديمي، فمن المفترض أيضاً أن نعطي الطلاب مجموعة من الأسئلة البحثية البسيطة من المواد الدراسية المختلفة لكي يتعاملوا معها وفق الانتباه اليقظ للواقع المادي المعاش والممارس داخل الجمعية التعاونية مثل: كيف تتعامل الجمعية مع ظاهرة السمنة عبر منتجاتها... وكيف تتعامل مع ظاهرة التدخين... وما هي خدمات كبار السن... وكيف تبدو أرفف الأطفال... وكيف رأيت الناحية الجمالية في المبنى... وكيف تواجدت اللغة العربية والأجنبية وما هي سياقاتهما؟
ثم بعد ذلك يعودون إلى المدرسة محملين بهذا الكم من المعرفة والتعقيد والتشبيك.
ولكن، ويا للأسف... إن كل هذا، وحسب نظام التقييم القائم في مدارسنا، لن يحرك شعرة من شعر معلم الإسلامية لكي يعطي الطالب درجات على سلوكه أثناء العمل أو معلم الاجتماعيات على احتكاكه الثقافي أو معلم الرياضيات لما قام به من حسابات منطقية أو أي معلم كان!
إنني لا أدعو إلى إهمال الجانب الأكاديمي في المدارس، فهي دعوة سخيفة لا يعول عليها، ولكنني أدعو إلى الاهتمام بالطابع العملي لكي لا نعزز فكرة أن الأعمال غير الأكاديمية هي أعمال غبية لا تستحق التقييم.
ولا أدري هل أردد ما هو مستهلك ومكرر في أنه ينبغي أن تكون هناك مادة دراسية تعالج هذا الأمر... أم أطالب بأدوات تقييم تراعي هذا السياق، أم أذهب إلى النوم وأنسى الموضوع برمته؟!

كاتب كويتي
moh1alatwan@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي