No Script

خواطر تقرع الأجراس

مناجاة العشق والخراب

No Image
تصغير
تكبير

المرأة- الأنثى تمتلك في طبيعة تكوينها نزعة بل فطرة أنثوية تتوارثها عبر العصور؛ وهي الميل إلى التأنق والتزيُّن والتبرُّج والغنج والدلال... ففي العصر الحجري كانت في كهفها: أنثى تمارس هذه الأُنثويات الجميلة التي تجمّلها وتجمِّل الحياة من حولها. ما قيمة الحياة بلا امرأة ؟ هي الجمال ذاته.
 وقد وجدوا في الكهوف أدوات تجميل وزينة بدائية بأدوات من بيئة ذلك العصر. لكنها مهما كانت بدائية فهي تقابل في عصرنا- مع فارق الزمن- أدوات زينة إيف سان لوران... وأعظم معاهد التجميل والنفخ والشفط والتركيب الاصطناعي للرموش والأهداب والجفون والخلفيات!
 وهل ننسى وصف ابن الرومي لطبيعة الربيع وقد تبرَّجت وكأنها أنثى؟ أليس هناك توحُّد في الأساطير القديمة بين الطبيعة والمرأة- الأنثى ؟ لم يجد ابن الرومي في وصف جمال الربيع أروع من تبرُّج المرأة وهي تتصدّى للرجل شريكها في الحياة والمتعة والجمال:

تبرّجتْ بعد حياءٍ وخفرْ
تبرُّجَ الأنثى تصدّتْ للذكرْ

ودعك هنا من أقوال بعض المتزمتين الذين لا يفهمون روح الشعر، فقد ربطوا بين المعنى المعجمي الحرفي للتبرُّج، وهو للبغِيّ، وبين وصف ابن الرومي؛ فالتبرج عندهم فقط هو إظهار ما خفي من جمال المرأة الحسي خارج نطاق التعفُّف. وقالوا إن ابن الرومي مصاب بالشهوانية الجنسية، وبالعنّة! كيف ذلك وقد كان لديه كثير من الأولاد؟ يقول في وصف الأرض العفيفة الحصينة الرزينة ربيعاً:

فهي في زينة البغيِّ ولكنْ
هي في عفّة الحَصان الرَّزان

اقرأ الآن مناجاة عشتار (عشتروت) لدموزي (تموز):
«من أجل دموزي اغتسلت/‏ جدلت مع الغار شعري/‏ صبغت بالكحل عيني/‏ زينت بالقلادة عنقي/‏ وبالعنبر طيّبت شَعري/‏ دموزي ضم خاصرتي براحتيه الواسعتين/‏ وراح يداعبني وقبّلته.../‏
 عشتار كامنة في أعماق المرأة منذ خلقت. لكنْ الحب والعشق والجمال وراءه دائماً الحقد والقتل والخراب وسفك الدماء! تتابع عشتار:
«فجأة انشقت الأرض وخرج منها العفاريت/‏ والذي قبّل الشفاه المقدَّسة ذُعِر قلبه وفرَّ بعيداً/‏ اختبأ في الأخاديد وكان فؤاده مفعماً بالحزن....«وتنتقل إلى مطاردة الأشرار لدموزي:
«غيلان متوحشون ينتزعون الزوجة من فراش زوجها/‏ والطفل الرضيع عن صدر أمه/‏ كانوا خلقاً لا يأكلون الخبز/‏ ولا يعرفون مذاق خمر العنب/‏ سريعاً وصلوا به إلى المذبح/‏ راحوا يدورون حوله ورقصوا رقصة الفرح/‏ ترنّح دموزي وخرّ عل الأرض صريعاً».
 ثم تتابع بهذه التراجيديا التي تشبه تراجيديا عصرنا في بعض أقطارنا العربية:
«ما من لبن يُسكَب للفقراء فلم يبق ثمة لبن، شربوه كله/‏ وأقدام الحظيرة الجرباء تدب على الأرض بأقدام ملتوية/‏ غيلان، حيتان، سفَاحون ينقضّون على كل شيء/‏ وسرعان ما يبددون جثث ضحاياهم المذبوحة/‏ الغيلان تعيش فوق المقابر/‏ ترقص على أكوام الجثث المتعفنة/‏ الغيلان تنجب وتتكاثر والغول الكبير فرّخ غولاً صغيراً/‏ أوّاه يا تموزي الجميل»!
 ما عليكم سوى قراءة مناجاة عشتار بعيون معاصرة لتعرفوا: العشقَ الأسطوري المقدس الذي جعلوه عشقاً حراماً. المرأةَ رمز الجمال التي جعلوها أُماً ثكلى مشرَّدة، مغتَصَبة، تنوح ليلاً ونهاراً حول مقابر الزوج وقلذات الأكباد إن عرفتْ لهم مقابر، أو حول معتقل مظلم خلف الشمس. والطفل اللاجئ في المنافي اليتيم الجائع المشرد لا يعرف أين كان، وأين صار، ومع من؟ أين الأرض والمسكن والأبقار والأغنام؟. لا لبن اليوم ولا ماء.
 لا شيء سوى نواح المناجاة الصامتة، وعذاب مشاهد الخراب!

* شاعر وناقد سوري

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي