No Script

التغيرات تتطلب السعي للإصلاح والمراجعة وتحتّم على العلماء الاجتهاد والتجديد والتصالح مع لغة العصر

شعار الإسلام الصحيح ودثاره

No Image
تصغير
تكبير

قبول الآخر لا يعني  الذوبان وفقدان الخصوصية  والمميزات التي حفلت بها  ثقافتنا الإسلامية  

في الشريعة الإسلامية  من السعة والمرونة ما يمكنها من استيعاب المتغيرات ومواجهتها  بفقه النوازل على اختلاف درجاتها  

المدنية لا تبقى إلا بالفضيلة  والفضيلة لا تتحقق إلا بالدين  ولا يوجد دين يتفق مع العلم  والمدنية إلا الإسلام الصحيح

المحطة الأولى:
المدنية الإسلامية والمدنية الغربية

لقد أتى على الناس حين من الدهر وهم يظنون أن المدنية الإسلامية قد ماتت وبليت فلا رجاء في بعثها، وأن المدنية الإفرنجية قد كسبت صفة الخلود فلا مطمع في موتها... ثم استدار الزمان، وظهر خطأ الحسبان، وكثر في حكماء أوروبا وعلمائها، من يرتقب اقتراب أجل مدنيتها، بما يفتك بها من أوبئة الأفكار المادية، والروح الحربية، والمطامع الشخصية، والإسراف في الشهوات الحيوانية.
وقد كان من الداعين لهذا هربرت سبنسر الإنكليزي مؤسس علم الاجتماع الذي روج لهذه المدرسة ولاقت قبولا عند الأوروبيين، والنتيجة أنها أرَّثت الأحقاد والأضغان بين الشعوب الأوروبية، وضاعفت المفاسد والمشاكل المالية والسياسية، وها هي أميركا وأوروبا اليوم لم تعد حلم الشرق مثلما كانت بالأمس، واللاجئون علقوا بحدودها وما زالت تضيق دائرة حقوق الإنسان فيها وتظهر فيها المظاهرات، ولكنها اليوم هزت العالم الإسلامي والشرق كله هزة عنيفة، وأحدثت في شعوبه ثورات لم تكن مألوفة. زعموا أنها ربيع ؟؟ فأصبح العراقي يخرب العراق، والمصري يخرب مصر والسوري يخرب سورية واليمني والصومالي... وهكذا وحق علينا قول ربنا {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} سورة الحشر 2.
قال الشاعر:
هذا الحق ما به خفاء
فدعني من بنيات الطريق
فما جنت الشعوب من حصاد الربيع العربي
إلا الحنظل ورجعوا بخفي حنين
إن المدنية لا تبقى إلا بالفضيلة، والفضيلة لا تتحقق إلا بالدين، ولا يوجد دين يتفق مع العلم والمدنية إلا الإسلام الصحيح، وإنما عاشت المدنية الغربية هذه القرون بما كان فيها من التوازن بين بقايا الفضائل المسيحية، مع التنازع بين العلم الاستقلالي والتعاليم الكنسية، فإن الأمم لا تنسل من فضائل دينها، بمجرد طروء الشك في عقائد علقت بأذهان الأفراد والجماعات منها، إنما يكون ذلك بالتدريج في عدة أجيال، وقد انتهى التنازع، بفقد ذلك التوازن، وأصبح الدين والحضارة على خطر الزوال، واشتدت حاجة البشر إلى إصلاح روحي غير لاهوتي ثابت الأركان، يزول به استعباد الأقوياء للضعفاء، واستذلال الأغنياء للفقراء، ويبطل به امتياز الأجناس، لتتحقق الأخوة العامة بين الناس التي نادى بها الإسلام {... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات 13، وهذا المأمول من عاطر سيرتكم ونهجكم في إعزاز العلم والعلماء.

المحطة الثانية:
«أنتم أعلم بأمور دنياكم»

لم يكن لبلاد الإسلام التي أسسها خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق وبلاد اليمن ومصر وغيرها مثل بلاد أفريقيا وآسيا وأوروبا، فلم يكن لكل هذه البلاد على مدى 14 قرناً من الزمان من فقه وعلم يستمدون منه أحكام الإدارة الاقتصادية والسياسة والقضاء والعلاقات بين الدول إلا الفقه الإسلامي المبني على قواعد الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين وهدي سلف الأمة الصالحين، وكان هذا كافياً في عصورهم السالفة ولا يزال كذلك، وسيظل إذا سلك العلماء فيه طريق الاجتهاد الذي علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم... ولكن لما ضعفت الحضارة الإسلامية بضعف دولها نتيجة للصراع الداخلي ضعفت كذلك هداية الإسلام فيها وضعف معها الإيمان وحل محله التنافس على الدنيا والرغبة فيها ثم قويت حضارة أوروبا تحديداً بعد فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح العثماني سنة (1453م).
وبذلك انتهى عهد الدولة البيزنطية ووضع هذا الفتح الإسلامي المشهود أوروبا على عتبات الحضارة الإسلامية، ثم زاد تأثير أوروبا من خلال نظمها وقوانينها وانتشرت انتشار النار في الهشيم في جسد الرجل المريض (الدولة العثمانية)، فعظمت سيطرة هؤلاء الأجانب على العقول والقلوب بتصرفهم في تربية النشء وتعليمه تصرفاً قصد منه قطع جميع روابط الأمة الملية والقومية وجعلها عالة على الأمم لتصبح الأمة الإسلامية لا فضيلة لها في نفسها ولا آداب، وعملوا على إبطال ثقتهم بشرعهم العادل الذي هو أساس عزهم وحضارتهم وهو المكون لدولهم التي هي منوط شرفهم التاريخي لتكون الأمة المكونة لا مجد لها ولا تشريع ولا تاريخ، كما عملوا على إبطال ثقتهم باللغة العربية الحافظ لشرعهم وفقههم وتاريخهم وحضارته لعدم شعورهم بالحاجة إليها بفقد الشعور بالحاجة إلى ما تحفظه من ذلك وهو القرآن الكريم والفقه الإسلامي والتشريع الإلهي، وبذلك تفقد الأمة الإسلامية أهم أركان استقلالها وتكون كالمنبوذ الذي يجهل أهله ونسبه فيكون أبتر في العالم، والنتيجة وجدنا هذه الدول العربية والإسلامية تحاول اللحاق بالأسرة الدولية لتجد الأمان في كنفها ؟ لتكتشف في النهاية أنها تجري وراء سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ؟ فلا زالت الذلة تضرب بجذورها أرومة العرب وهي تستجدي رفع الظلم عنها من هنا وهناك !

المحطة الثالثة:
الاستفادة من الخبرات الإنسانية

لقد دأب علماء الأمة الإسلامية وقادتها عبر التاريخ الطويل يرون أنفسهم أولى من كل البشر بكل علم وفن وقانون ينفع الناس في معايشهم أو عقولهم أو أبدانهم حتى أحيوا العلوم الميتة والفنون الدارسة في الأمم الأخرى، وكانت هذه العلوم والفنون تُقرأ مع علوم الدين في مساجد المسلمين ومدارسهم وجامعاتهم كقرطبة والزيتونة والأزهر والقرويين وغيرها، وما وجدوا شيئاً منها مخالفاً لشيء من نصوص الدين إلا وحكموا فيه بأحد أمرين:
1 - إما كونه باطلاً فلا يعول عليه لمخالفته الدين.
2 - وإما اعتبار المخالفة صورية لا حقيقية لإمكان الجمع بين ما ثبت منه وبين النص أو الإجماع أو القياس الصحيح، وقد أيد هذا المعنى الثاني الإمام ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية حيث قال: إن من اعتقد أن لا سياسة في الدين إلا ما نطق به الوحي فقد أخطأ.
وعندنا قاعدة عامة وهي (كل ما ثبت عدم مخالفته للشريعة فهو موافق لها).
إن علماء الأمة الإسلامية هم علماء الملة اليوم، وعليهم المعوّل في إمامة الدنيا وحراسة الدين، ولقد أخذ الله الميثاق على العلماء قديماً وحديثاً أن يوضحوا للناس ما نزل إليهم توضيحاً يثبت لهم بالأدلة والبراهين أن سعادتهم في الدنيا والآخرة متوقفة على هذا الدين وأنه كله خير وعدل وصلاح، وأنه خال من كل ظلم وباطل وفساد. وأن أحكامه موافقة للفطرة والتطور ومصالح الناس في كل زمان ومكان، وأن سلطته ليست شخصية ولا ثيوقراطية ولا أوتوقراطية، بل هي حكومة قائمة على الشورى.

الاجتهاد واجب على العلماء
إن علم العقائد والملل والنحل هو أحد فروع علم الشريعة، ومن جملة واجبات المختصين بهذا العلم الإلمام بقدر الحاجة بالعلوم العصرية والمذاهب الفلسفية الحديثة وأصول الأديان المشهورة وتواريخ الملل الكبيرة ليعرفوا مدى قربها أو بعدها عن الإسلام الصحيح وما بينهما من المشاركات أو المباينات وما يدور فيها من الشبهات ليوضحوا الحق ويميزوه عن غيره من أنواع الأباطيل التي راجت اليوم.
كما يجب عليهم ربط ذلك في علم التربية والتوجيه والإرشاد العام ويكون لهم معرفة بالجمعيات الدينية عند اليهود والنصارى ومن قلدهم من نصارى الشرق في مدارسهم وكتبهم وسيرة القساوسة والرهبان والراهبات ليعلموا كيف أن هذه الأمم تقدس رجال الدين عندهم ؟ وكيف أننا نستهزئ بكل شعار ودثار للدين؟
المحطة الرابعة:
النخبة وقادة الفكر

عندنا علماء ربانيون وكفاءات دستورية وقانونية وقضاة وأكاديميون لهم مساهمات وطنية يفخر بها كل غيور على الدين، وهذه النخبة عليها اليوم مسؤولية النظر في القوانين الوضعية بأنواعها ليعرفوا ما فيها من حسن وقبيح وعدل وظلم ليزدادوا بصيرة في محاسن شريعتهم وطرق خدمتها، كما عليهم النظر في كتب الفقه المتداولة اليوم ليسدوا النقص فيها أو توضيح العبارة أو إزالة الصعوبة والتعقيد بسبب ما حدث للناس من أقضية ومعاملات التي لم تكن في عهد الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأبي حنفية وأحمد رضي الله عنهم، فيتداركوا ذلك كله ويثبتوا لكل ناظر وباحث فيما يضعونه من الكتب الحديثة أن هذه الشريعة كاملة لا يمكن لأهلها الاستغناء عنها مع القيام بمبدأ الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها».
إننا نعيش التطور التاريخي الطبيعي الذي يفرض تغيرات اجتماعية حتمية لا يقودها الغرب ولا يسيطر عليها أحد. هذه التغيرات تحتم علينا السعي للإصلاح والمراجعة والمرونة والتمييز بين الثابت والمتغير، وتحتم على العلماء الاجتهاد والتجديد والتصالح مع لغة العصر، ففي الشريعة الإسلامية من السعة والمرونة ما يمكنها من استيعاب المتغيرات ومواجهتها بفقه النوازل على اختلاف درجاتها.
والقانون إذا أطلق في عرف الحقوق والحكومات ينصرف إلى ما يضعه البشر من الأحكام التي تجري عليها الحكومة ويكون مقابلاً للشريعة التي هي وضع إلهي لا بشري، وبعد إصدار القانون وإقراره عبر قنواته المعتمدة يتولى القضاة تنفيذه والحكم بما يفهمون من نصوصه من خلال مذكرته التفسيرية، وقد لا يتقيدون بمآخذ أحكامه من الشرع وربما لا يعرفها الشارح وقد يفضي ذلك إلى مخالفة نصوص الشارع أو خرق إجماع الأمة.
وقد يعتقد البعض أن الشريعة ليس فيها مرونة عصرية، أو يسعى جاهداً لاسترضاء الأقليات غير المسلمة أو يتمحل الأدلة لكسر قيد الدين والخروج من حكم سلطانه وهمه في ذلك تقليد الملاحدة الإفرنج الذين استولوا على بلاد المسلمين فكرياً وإداريا وسياسياً، أو يعتقد أن الأمة والحكومة لا يمكن أن ترتقي مع التزام أحكام الشرع وأن القوانين الإفرنجية خير لهم من الشرع الإلهي ؟
أو يتوهم بعضهم أن الإسلام يمنع التمتع بالطيبات ويأخذ دائماً بالعزائم قال تعالى:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الاعراف 31،32).
وقد يستحسن البعض مقولة الفصل بين الدين والحكومة، وبأن الشرع المبني على أصول الدين لا يصلح لترقي البشر الدنيوي، وبأن الشرع الإسلامي قد وضع لأمة بدوية أو قريبة من البداوة أو في فترة زمنية مضت بلا عودة، فالواجب بترها من تاريخنا، فلا ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر (عصر الانفتاح؟)، وبالتالي ينادون بوجوب توحيد القوانين والتشريعات وجعلها موافقة لجميع الملل والأديان في الوطن الواحد؟ ومساوية بينهم؟
والخلاصة اقول أن هذه الشبهات والأخطاء يتحمل وزرها علماء الأصول والفروع في الشريعة إذا استمروا على جمودهم التقليدي إلى يومنا هذا، فسيأتي يوم يضيع فيه ما تبقى من الشريعة مما تعمل به المحاكم اليوم! ولعل مثالاً واحداً يوضح المقصود وهو لما فشى الفكر الاشتراكي في العالم العربي وموجة تأميم الأموال العامة وسعى بعض العلماء القريبين من الحكام في ذاك الوقت في إخضاع نصوص الكتاب والسنة لإثبات اشتراكية الإسلام؟ واستدلوا بقوله تعالى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الروم 28، فقالوا ألم يقل الله تعالى: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} هذا يعني أن الإسلام اشتراكي؟ واستدلوا بحديث (الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار) رواه أحمد وأبو داود.
والخطأ الذي وقعوا فيه في الآية أن الآية في سياق النفي وهي منفية وليست مقررة، فمعنى الآية هل لكم مما ملكت أيمانكم من العبيد شركاء ؟ فيساوونكم في أموالكم ؟ والجواب لا. وأما الحديث فهو غير صحيح بهذا اللفظ.
والحقيقة أن هؤلاء الذين ذهبوا إلى أن الإسلام اشتراكي علماء، ولكنهم علماء ضلال ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) رواه أبو داود والترمذي.

المحطة الخامسة:
قبول الآخر

إن التفاهم المشترك وقبول الآخر ومبدأ الشراكة لا يعني بحال من الأحوال الذوبان وفقدان الخصوصية والمميزات التي حفلت بها ثقافتنا الإسلامية كفيلة بعد الله تعالى لتحفظ مقوماتنا التي يعززها التاريخ.


* عضو هيئة التدريس في كلية التربية الأساسية

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي