No Script

قصة قصيرة

انتصار متلصص...!

No Image
تصغير
تكبير

لم يتذكر متى أدمن هذه العادة، كان في البداية يفعلها لهواً، حتى أوقعته نفسه في شراكها وكأنها إغواء فتاة لعوب.
فقد كان اياد يعمل في أرشيف جريدة حكومية، و الحق أن الرجل كان ماهراً في عمله، لا تجد أفضل منه في حفظ وترتيب وتصنيف الوثائق و الأوراق، فلا تستغني عنه إدارته مهما كلفها الأمر، أما هو فبالتأكيد لن يفكر بتغير شي في حياته مهما بلغ به الحال، فضلاً عن أي يغير عمله!
وكأنه كأي شيء جامد تجده أمامك، صنم بلا روح، ليس لديه طموح أو رغبة أكثر من أن يكون رجلا خفيا، لا يعرفه أحد ولا يسمع صوته أحد، رجل عادي، بل أقل من ذلك.
يعيش اياد وحيداً في منزل متواضع في أحد الأحياء الفقيرة، حيث البيوت المتهالكة والمساحات الضيقة المتقاربة، لم يكن يقصد في أول أمره أن يسترق السمع و النظر على جيرانه، كان يشعر بلذة كلذة الانتصار حين يدرك أنه يعرف أسرار الجميع، حتى شعر أنه يقع في إدمان التلصص رويداً، فإن السقط يحرق الحرجة كما يقال، وما إن أدرك تعلقه بالتلصص حتى أصبح يفعل ذلك سريعاً كي لا يدع مجالاً لعقله بالتفكير بالأمر و يعيد النظر بسوية نفسه وأخلاقه، لكنه يشعر بالسخف والانحطاط حين يتذكر عادته، لذا حاول التبرير باعتقاده أن الشيء غير ذي ضرر ما دام أنه يبقى سراً، وما لم يؤذ ضحاياه بذلك، وقال لنفسه مسلياً: ما الذي سيتغير لو أن أحدهم كان يراقبني من دون أن أعرف! لا شيء على الإطلاق!
كانت عادته تلك مقتصرة على المنازل المحيطة، حتى لفت انتباهه ذات مرة أنه يستطيع التلصص على جارته في حال أنه استعان بمنظار، ومنذ ذلك الحين أمضى أغلب الوقت بالنظر إليها ومراقبتها حتى تطفئ الأنوار لتنام، لم يكن يعرف عنها الا أنها تسكن وحيدة، لم يعرف ما اسمها وما عملها ، يكفي أنها كانت ذات جمال ساحر حتى تيقظ بداخله صبوة الشباب، و تحرك الساكن، و تقرب البعيد، فيحس أنه يلامس القمر .
يشعر أن التلصص حالة نداء بالنسبة له، وكأنه يستغيثها لتلقي نظرة عليه، نظرة تشفي جراحه وتطفئ ظمأه ، ومن يشفق على رجل ضعيف مجهول مثله! إن الناس لا تقدر الا القوي، ومع هذا يخيل إليه أحياناً أنها تشعر به وتعرف بوجوده، وأنها تتعمد إبقاء ستائر منزلها مفتوحة حتى يتسنى له النظر والمراقبة، ثم إنها كانت الشيء الوحيد في حياته الذي يراه في كل يوم كأنه يراها لأول مرة، حتى حدث أمر ما جعله يتوقف عن التلصص إلى الأبد!
حدث ذلك بعد شهور عدة من مراقبتها، رأها ذات يوم تخرج من منزلها وتمشي قاصدةً الشارع الذي يسكن به، ثم بنايته، ثم منزله!
ظن في بداية الأمر أنها تزور أحد جيرانه ، لكنه سمع صوت طرق الباب، فتيقن أنها هي، دق قلبه سريعاً كطبل في كرنفال، توقفت قدماه عن الحركة ، حدث نفسه: (مستحيل!، لن أفتح ! ماذا سأقول لها!)، وما هي إلا دقائق حتى توقف الطرق، و سمع صوتاً جاء من أسفل الباب، اذ به ظرفاً قد ألقي به من الخارج.
انتظر دقائق عدة حتى تيقن من ابتعادها، جرى نحو الباب، أمسك الظرف، فتحه سريعاً، وجد ورقة بداخله، أخرجها ليقرأ ما كتب:
اياد، كف عن مراقبتي!
قلّب الورقة مراراً باحثاً عن شيء اخر، أعاد قراءتها مرة أخرى:
اياد، كف عن مراقبتي !
لم يصدق ان اسمه مكتوب، ولم يعرف كيف علمت باسمه، جثى على ركبتيه، توقف الزمان به، اياد! لم يكن يعرف أن اسمه بهذا القدر من الجمال، ابتسم قليلاً وهو يستشعر أناملها التي كتبت حروفه، شعر بوجوده لأول مرة، وهل وجودك الا وقوع أثرك على شيء ما! وهو لم يكن قد شعر بتأثيره على أي شيء اطلاقاً.
تسمرت عيناه على اسمه، أعاد قراءتها حرفاً حرفاً، أحس بالفخر والاعتزاز، يرتجف قلبه كلما أحس أنه موجود، وأن هناك من يلاحظه و يعرفه، أما أن تكتب اسمه فتاة جميلة، فهذه رفاهية لم يحلم بها من قبل! اجتهد أن يصيب أي أثر من أصابعها على الورقة بقدر ما لديه من عزم وشغف للمسة يديها وهما على مركب قد أخطأ وجهته في عرض البحر، بكل عطف وحنو تلمسه فيزول منه كل داء ويتخلى عن كل عادة، الا داء تعلقه بها.

tfm_a@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي