No Script

رؤية

رأي في كارثة الأمطار

تصغير
تكبير

خلال فترة دراستي للدكتوراه، في وحدة أبحاث أنظمة الطاقة، واجه العاملون في الوحدة مشكلة حرجة لم تكن في الحسبان، حين تعطلت شبكة حواسيب (Work-Stations) الوحدة، بسبب عطب نتج عنه فقدان جميع البيانات الالكترونية المخزنة فيها. الحرج كان في أن الوحدة فقدت ملفاتها الالكترونية التي انشغل أعضاؤها بإعدادها، على مدى أيام عدة متتالية، ولساعات طويلة في كل يوم، من أجل التحضير لاجتماع تنسيقي بعد الحادث بيومين، مع علماء ومتخصصين من مراكز بحثية أوروبية، شريكة مع الوحدة في مشروع بحثي كبير، ممول من الاتحاد الأوروبي.
أصاب المنتسبين للوحدة مزيج من المشاعر السلبية، بين احباط  ويأس ورعب وغضب. ولكن هذه المشاعر سرعان ما بدأت تتبدد بعد حضور مدير الوحدة، البروفيسور كلارك، ومحاورته زملاءه بثقة وهدوء، حتى بعد أن أبلغ أن آخر عملية حفظ احتياطية (Backup) للبيانات الإلكترونية تمت قبل اسبوعين تقريبا. أي أنهم خسروا الجهد المكثف الذي بذلوه، خلال تلك الفترة، قبل يومين من موعد وصول الفرق الأوروبية.
اقترح البروفيسور أن يتم إعداد ملفات بديلة مختصرة جدا، تفي بالحد الأدنى من الحاجة، خلال الساعات المتبقية قبل انعقاد الاجتماعات. وبالفعل أقر المقترح، بعد أن أكد الباحثون الأساسيون في الوحدة، استعدادهم وقدرتهم على تحقيق المطلوب، خلال تلك الفترة القصيرة.


بعد انتهاء الاجتماعات التنسيقية مع الوفود الزائرة، وإعداد التقارير التفصيلية الخاصة في تلك الاجتماعات، دعا البروفيسور المنتسبين للوحدة، ومن ضمنهم طلبة الماجستير والدكتوراه، إلى اجتماع موسع لدراسة الازمة، والتحقيق في أسبابها، والخروج بتوصيات من شأنها منع تكرارها أو تخفيف أضرارها إن تكررت. وكان من بين التوصيات التي أتذكرها، زيادة وتيرة الحفظ الاحتياطي للبيانات الالكترونية، بشكل يتناسب مع كثافة النشاط على الشبكة.
أنقل هذه الحادثة وتبعاتها، ومنهجية البروفيسور للتعاطي معها، إلى نوابنا في مجلس الأمة، خصوصاً الأعضاء المتحمسين للظهور الإعلامي، والسياسيين الحريصين على زعزعة الاستقرار السياسي، من خلال إنهاك وإسقاط الحكومات التي لا تتضمن شخصيات معينة، أو الدفع نحو حل البرلمانات التي لا يملكون الغالبية فيها.
المنهجية البرلمانية لمراقبة الحكومة ومحاسبتها يجب أن تتغير، لينتقل محورها من تصفيات وصفقات سياسية، إلى تعاون وتكامل بين السلطتين في مواجهة الأزمات، من أجل اجتيازها واتخاذ ما يلزم لتفاديها مستقبلا، كمنهجية البروفيسور.
فلا يمكننا أن نستمر بالمنهجية الرقابية الطائشة نفسها، التي اتبعت في مراقبة صفقة «الداو كيميكال» المريبة، التي كبدتنا ما يزيد على ملياري دولار تعويضات، والتي حرمتنا من التوسعة والتنمية في الصناعات البتروكيماوية الواعدة. وكذلك لا يجوز أن نتمسك بالمنهجية المحاسبية نفسها التي أسقطت وزراء وحكومات وبرلمانات، ولكنها في الوقت ذاته رسّخت وعمّقت الفساد في الدولة.
لذلك، أرى أن الاجتماع الذي عقد يوم الاحد الماضي، في مكتب مجلس الأمة، لبحث تداعيات وآثار الأمطار الغزيرة، خطوة إيجابية متوافقة مع منهجية البروفيسور، لسببين: الأول أنه تضمن عروضا توضيحية من قبل الأجهزة الحكومية المعنية بتقييم أزمة موسم الأمطار الحالي، وجهود التعاطي معها؛ والسبب الثاني هو اتفاق الحضور على إنشاء جهاز متخصص للأزمات والطوارئ. ولكن على الضفة الأخرى، قدّم النائب شعيب المويزري استجوابا إلى رئيس الحكومة، وأعلن النائب محمد المطير أنه سيكون من أوائل الموقعين على ورقة عدم التعاون.
علينا جميعا أن ندرك أن كارثة الأمطار، كباقي أزماتنا، نتاج جبال من الفساد، تراكمت على مدى سنوات طويلة. ضعفت بموجبها قدرة وزارة الاشغال العامة على إدارة وتطوير شبكة صرف مياه الأمطار، وهذه القدرة لن تعود إلى سابق عهدها باستقالة وزيرها، ولا بإسقاط حكومة، على الأقل في المرحلة الحالية، لأنها تتطلب إصلاحات جذرية.
فمن المنظور الأكاديمي مثلا، وزارة الاشغال تحتاج إلى إعادة تأهيل مهني وقيمي. فالوزارة كغيرها من مؤسسات الدولة مخترقة من قبل حملة شهادات وهمية، ومن بينهم مهندسون ومراقبون، تنقصهم المعارف والمهارات اللازمة لأداء واجباتهم المهنية تجاه شبكات الأمطار. كما أن الوزارة كبقية الجهات الحكومية تعاني من نقص شديد في قيم العمل والولاء الوظيفي، بسبب المحسوبيات والواسطات. فتجد، على سبيل المثال، أن بعض المهندسين والمراقبين يقرّون ويعتمدون أعمال إنشاء أو تنظيف شبكات الأمطار، من دون التحقق الدقيق من جودة تنفيذ الأعمال.
لذلك علينا أن ننهي مسلسل الأجندات السياسية لأقطاب متنافسين، التي حصّنت الفساد، وعلينا أن نقوّم المنهجية البرلمانية الرقابية والمحاسبية، لتكون قادرة على اجتثاث ذلك الفساد المحصّن... «اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه».

abdnakhi@yahoo.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي