No Script

خواطر صعلوك

امرأة هزت كراسي الوافدين !

تصغير
تكبير

يبدو على الرجل الجالس بجانبي أنه جزائري... هذا ما قلته في نفسي من النظرة الأولى، ولكنني عندما دققت النظر لبرهة بعد أن جلست وشددت حزام الأمان قبل الإقلاع، لاحظت أنه يبدو مصرياً أكثر من كونه ليبياً نجا من مدفعية الثوار... وعندما لاحظ الرجل أنني أدقق النظر فيه ابتسم مجاملاً، وشعرت كأنه أردني جاد الملامح، ولكنه في الوقت نفسه يحمل ملامح وتقاطيع مغربية آسرة، أما طريقته في النحنحة والكحكحة كرجل مسن، أوحت لي أنه عراقي.
قلت في نفسي «ما هذا الرجل الذي يلتفت نحو جميع الجهات، وكأنه خريطة بشرية تمردت على إطارها؟».
طافت بي ذاكرتي التي لا تتعدى عمري، وعمري الذي انبثق منه الوعي مشكلاً عبر كثير ممن يشبهون هذا الرجل... لأكتشف أني أعرف كويتياً يشبهه في جلسته المعتدلة وفلسطينياً يحمل ذات العين التي ترى الأفق... ورغم ذلك، فقد شككت أن يكون يمنياً نجا من الكوليرا.


ها هو يريد أن يشاهد فيلماً ما لكي لا يشعر بملل الطائرة... وأنا آسف لأني لم أقل لك عزيزي القارئ أنه جاري في كرسي الطائرة التي تقدم خدمة مشاهدة الأفلام، بالإضافة إلى ابتسامة المضيفة في وجهك واشمئزازها من قفاك.
أعطني أذنك عزيزي القارئ، لأني سأوقف القصة هنا حيث أريد أن أهمس لك بكلمة: «سينما بوليوود بخيالها وعاطفتها وهوليوود بفرديتها وعنجهيتها هي مشاهدة مواقف لا نمارسها في الحياة، في أماكن لم نتفاعل معها، أفرزت سياقات اجتماعية لا تشبهنا، ما جعل السينما والمشاهدة بالنسبة إلينا هي لحظة غياب عن الواقع بدلاً من أن تكون لحظة انتباه ويقظة وفتح أفق لما يمكن أن نذهب إليه من عمران بعد لحظة الاسترخاء. وليس قصدي هنا أن أحمل قطاع الترفيه أكثر مما يحتمل، ولكنني أقصد أنه يتم هدرنا ككائنات حية من خلال قطاع الترفيه ومصطلح الترفيه وثقافة الترفيه». ارجع مكانك عزيزي القارئ!
ولكن الرجل للأسف مرر الأفلام كلها على الشاشة، بما فيها العربية الاستهلاكية والسينما البديلة، ولم يعجبه شيء... ثم سمعته همهم وهمس بكلمات، ففاتت فرصة أن أحدد جنسيته من خلال ما يشاهد أو يسمع أو ما تمتم به.
وفي منتصف الرحلة، بدا لي الرجل سعودياً، خصوصاً عندما قال «بسم الله» قبل أن يأكل وجبة الطائرة، وتراجعت فوراً عن هذا الاستنتاج الغبي خلال ثوان عندما اكتشفت أننا جميعا نسمي الله.
ربما إماراتي أو قطري... ولكن ابتسامته للمضيفة وهو يسلم بقايا طعامه، جعلتني أشك في أنه سوري محب للحياة ويريد أن يبنيها أو لبناني يعشق الحياة ويريد أن يزينها، أو ربما عماني من البلاد العتيقة، وهي الجهة التي أقصدها وتقصدني.
حسناً...
سأسأله وأنهي هذا المونولوج الداخلي:
- السلام عليكم... معاك محمد من الكويت.
- «صمت»...
- أعتذر على إزعاجك، ولكن سبحان الله... أنت تشبهني كثيراً... وتشبه كثيرين ممن عرفت.
- «صمت»...
- أعتذر مرة أخرى على تطفلي، لعلي فقط أردت أن أقول إننا جميعاً نشبه بعضنا... مع احترام المسافة التي لا تتعدى مسند كرسي الطائرة الذي بيني وبينك.
 والآن أعتذر منك أنت عزيزي القارئ على هذا المونولوج والديالوج الذي قد يكون في لحظة رديئاً من الناحية الأدبية أو القصصية... ولكنها أيضاً كانت محاولة لكي أدخل في حوار مع الآخر، والذي هو أنا.
وفي الواقع، ولكي أكون دقيقاً، فكرسي الطائرة الذي بجانبي فارغ... ولكنني لا أؤمن بالفراغ، لأننا دائماً وفي كل حال نقف بين يدي الحق، فكيف يرى الفراغ من كان منصتاً؟
ولا حاجة لك بالوقوف طويلاً عزيزي القارئ اللطيف أمام ثرثرة كاتب ظريف لم يحسن وضع فكرته في قالب قصصي ممتع... لذلك، واختصاراً للوقت والجهد وحبر المطابع، فقط أردت أن أقول إننا جميعاً نشبه بعضنا وإننا في داخلنا نسمع صيحات لا تحصى من أجناس يشبهوننا... قف بقدميك على تجاربك العنصرية أو نوازعك الوطنية التي تجعلك تدوس على الناس ثم ارجع للوراء قليلاً لكي تتقدم وتحدق في وجه إمام الهدى وأشرف من في سلالتك وسيد ولد آدم، وهو يقول بتواضع المحب «لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أسود ولا أبيض إلا...»... أعتقد أنكم تعرفون! ورغم ذلك تنسون.
كانت مضيفة الطائرة تراقبني من بعيد، بينما كنت مندمجاً في هذه الحالة التي ترى في الفراغ كل الوجود. تقدمت المرأة بخطوات واثقة أمام جميع الركاب، ثم قامت بهز الكرسي الذي بجانبي وقالت لي «أيها المجنون الحالم... الكرسي الذي بجانبك فارغ، ولا أحد سوانا في الطائرة، فهلا جلست صامتاً لكي نكمل عملية الهبوط بسلام»!
أغلقت فمي... واستسلمت لعملية الهبوط حتى القاع!

 قصة قصيرة:
قال بعصبية:
كان الأولى بك أيها الكاتب الصغير أن تملأ الكرسي الفارغ بـ«البدون»، وليس بالوافدين، لأن «البدون» هم الأليق بحالة الفراغ.
رد بعفوية:
«البدون» لا يجلسون على الكراسي أصلاً... فهم معاقبون بالوقوف على قدم واحدة في آخر الصف منذ عشرات السنين!

كاتب كويتي
moh1alatwan@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي