No Script

رثاء

فاطمة عبدالعزيز البدر... «أمي»

تصغير
تكبير

كبرتِ ولم يزل قلبك غضا، أحببتِ الجميع وحملتِ لهم كل الود، من دون النظر إلى لون، أصل أو دين ولم تنتظري الرد فكنتِ دائما سباقة بالطيب اللا محدود، آذاك البعض و لم تردي إساءتهم، فقد كنتِ على قناعة بأنه لا يوجد ما هو جدير بالصدام مع البشر في دنيا فانية، امتدت يداكِ الخيّرة إلى الجميع بلا حدود فقد كانت السعادة تغمر وجهكِ الباسم و قلبكِ الطاهر حين تنفرج كربة أحد، وكانت مقولتكِ الشهيرة لي «عسى حلوانا تدفع بلوانا» كنت أسمعها و أنا فتاة صغيرة ولم أدرك حجمها الا بعد أن كبرت.
امي كنتِ صديقتي وكاتمة أسراري، كنتِ لي ملاذي و أنا طفلتك رغم كبر سني، تغرورق عيناي وأنا أرى وجهكِ الذي أنهكه المرض... فمنذ أن ضعفتِ تبادلنا الأدوار أصبحتُ لك أماً وأصبحتِ طفلتي المدللة التي لا أقوى على فراقها، طفلتي التي لا يغمض لي جفن حتى تنامي ويصبح علينا يوم جديد أرى فيه عيناكِ حين تستيقظين ووجهكِ الباسم فأقبل رأسك وأذهب لأنام بضع ساعات.
أمي... اشتد عليكِ المرض وكنتِ له صابرة محتسبة، الجميع ممن رافق رحلة مرضكِ كان يعجب لتلك الابتسامة رغم الألم من دكاترة وممرضين و العاملين في المستشفى فأحَبكِ الجميع بلا استثناء.
أمي لقد كنتُ أعلم ما كنتِ تقولين قبل أن تنطقيه، كنت أعلم ما تخبرني به ملامحك فأحرص على فعله، و كل ليلة قبل أن تستلقي بجسدك الذي أصابه الهزل من شدة الألم كنت اسألكِ هل تريدين شيئا، أي شيء يخطر على بالكِ و سيكون نصب عينيك، كنتِ تبتسمين وتسأليني «مثل شنو؟ كل شي عندي»، ولكني أعلم ماذا كانت تريد و أحرص ثاني يوم أن يكون بين يديها فتفرح، وأفرح أضعاف فرحها.
أمي لا أتمالك نفسي وأنا أكتب حين أتذكر كيف كنت احتضنك لأهون عليكِ ما أنتِ فيه، فتضعين رأسكِ على كتفي كابنتي التي لم ألدها فأقبّل رأسك و تلتفتِ لتقبلي بدوركِ كتفي، لحظات صمت ترمين أحمالكِ على كتفي وتشعرين بالراحة، قبل أن تستلقي للنوم.
أمي كنتِ تنظرين الى الأجهزة الموصلة لجسدكِ الطاهر وحين ألمح هذه النظرة أحرص على أن أنهض بكِ لتمشي بضع خطوات لتعلمي أنه لا مستحيل متى ما عزم الإنسان على التغيير وكسر الحواجز، حملت ما استطعت من أجهزة مع المساعِدة وأمسكت بيدكِ التي ملأتها وخزات الإبر.
أمي... لا أكف عن ندائك يا أجمل وألذ نداء نطق به لساني، كنت أحب ان أناديكِ بأسماء الدلع فأنا أعلم أن بداخل كل أنثى مهما كبرت فتاة صغيرة قلبها لا يشيب أبداً.
طوال سنوات كثيرة لم أُرِها دمعة واحدة لي حتى لا تتألم لحزني... ولكن حين تلقيت خبر الهزيمة التي باتت واضحة المعالم وقفت على فراش مرضها واضعة الكمام الذي غطى نصف وجهي و يا ليته غطى عينيّ اللتين انهمرت منهما الدموع بلا توقف، وأنا أحدثها علّها تسمعني، وأشد من أزرها وأترجاها أن تثبت على موقفها وتقاوم و لكن لا اجابة لإلحاحي، في المرات السابقة كانت تعدني بالمقاومة والعزيمة على الثبات، أمّا الآن بلا جواب بلا حراك بلا ردة فعل، خرجتُ من العناية المركزة مكسورة مهزومة.
كل ليلة وانا في طريق العودة إلى المنزل كنت أختنق كلما قربت المسافة من المنزل، فهي ليست هناك على سريرها الطبي الذي أعددته لها وعاشت سنة عليه خاليا فقد عقمناه وغطيته بغطاء أبيض كقلبها على أمل عودتها، تمر الشهور ولم ينقطع الأمل حتى آخر يومين فقد رأيت بعينيها ما لم أره من أمي في حياتي، استسلمت لهذا المرض فقد كان أشرس عليها من أي وقت مضى وتغلغل في كل جزء من جسدها، فلم يترك لها أي مجال للمقاومة.
أمي... وعدتكِ أن أكون بجانبكِ وأني معك على طول المسار وكنتِ تبتسمين لتردي علي ويدكِ على كتفي «أدري حبيبتي»، وقد أكرمني ربي أن أكون ممسكة بيدكِ الطاهرة حتى لفظتِ آخر نفس، وفارقتِ الحياة صبيحة العاشر من سبتمبر 2018... فارقتها بعد حرب دامت عامين، أي بطولة هذه؟ صابرة، محتسبة الأجر، مبتسمة، راضية وقانعة بقضاء الله وقدره، أمي... فارقتني روحي منذ أن رحلتِ، ولكن عزائي الوحيد أنكِ الآن بلا أجهزة مثبتة على جسدك، بلا وخز ابر، بلا ألم، بلا أشياء لا تحصى من الروتين اليومي المرهق بكل تفاصيله الطبية المزعجة... أمي... ودعتكِ قبل أن يوارى جسدك الطاهر الثرى على وعد اللقاء في جنات النعيم بإذن الله.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي