No Script

خواطر تقرع الأجراس

صائد الصراصير و«قنّاص الذباب»

No Image
تصغير
تكبير
عرفت طفلاً في العاشرة من عمره، مهووساً بجمع الحشرات والحَيَّات الصغيرة والتي نسميها: حيّة الشمس. ما من مرة كنت أزور عائلته إلا وهو يدخل ويفاجئنا بإخراج صرصار من جيبه، أو حيّة شمس، أوحشرة غريبة... وكلها على قيد الحياة!

ويبدأ الجميع بالصراخ والهرب وصبّ اللعنات عليه وطرده، وعدم االسماح له بالدخول إلى البيت إلا بعد إفراغ ما في جيبه. وعند عودته تنهال عليه الصفعات من أمه أو أبيه، ويُدفَع دفعاً إلى غسل يديه بالماء والصابون وتطهيرهما بالكحول. كان منبوذاً، لا أحد يتناول من يديه شيئاً، أو يجالسه على مائدة ويشاركه في طعام. وكثيراً ما كانت الشكاوى المدرسية تأتي إلى الأسرة مهاجمة سلوكه الحشري الحيواني؛ إذ كان يُفزِع أقرانه في الصف بإخراج الصراصير والحيّات الشمسية، والكائنات الغريبة... ويدخل الصف في هرج ومرج، فيطرده الأستاذ.

كنت أنا أيضاً منبوذاً من العائلة؛ فقد كنت أعترض على طريقة تربيته، وعدم فهمه، داعياً إلى ترشيد هذا السلوك. وأقول لها إن هذا الطفل موهوب علمياً! ولو وجد مَن يغذّي فيه هذه العادة «الشاذة»، ويوجّهها فلربما صار باحثاً في العلوم الطبيعية، وعلم الأحياء، مثل قنّاص الذباب؛ العالِم الذي كان مولعاً بجمع الحشرات، والنباتات الغريبة، والكائنات الحية الأغرب، لتشريحها وإجراء التجارب عليها.

طبعاً كانوا يستنكرون كلامي ويستهجنونه، وهم غافلون عن أنهم يدفنون مشروع عالِم أو باحث في أعماق هذا الطفل. كانت النتيجة أن الطفل ترك المدرسة من نهاية المرحلة الابتدائية، وهو اليوم: بائع جوّال!

هذه شريحة من شرائح. الجهل التربوي في حياتنا الأسرية، والتربوية العامة، حين نضيِّع على أطفالنا فرصاً كثيرة من التفوق، ونبدِّد طاقاتهم الخلّاقة ومواهبهم «الشاذة»!

«قنّاص الذباب» هو تشارلز داروِن. الذي «ملأ الدنيا وشغل الناس»، ليس شعراً كالمتنبي، بل ملأها علماً ونظرياتٍ مثيرة في كتبه العديدة ومنها «أصل الأنواع»، و«سلالة الإنسان»،

و«النباتات آكلة اللحو»!... وغيرها من الكتب العلمية التي لا نعرف منها- نحن العرب- سوى كتاب أصل الأنواع، ونظريته في أن أصل الإنسان قرد!

نقرأ في مذكراته: «كان حبُّ جمع النماذج عميقاً في نفسي... غريزة فطرية، من من دون كل أشقائي. ولا شك أن هذا الميل هو الأساس الذي يجعل من الإنسان عالِماً طبيعياً، أومهووساً».

وفي بداية مسيرته العلمية اختارته جامعة كمبردج ليكون مع الفريق العلمي في سفينة الأبحاث الشهيرة «بيجل» Beagle، لتكون مهمته دراسة النبات والحيوان في أميركا اللاتينية مثل شيلي وبيرو وبعض جزر المحيط الهندي.

وقبلَ رُسُوّ السفينة كان قد حلّل الأتربة التي يحملها الهواء في جو المحيطات! وكشف في رحلته البحرية عن سبعة وستين نوعاً من الحيوانات والنباتات النادرة.

بعد عودته بدأ بكتابة أبحاثه العلمية. وقدّمت له الحكومة منحة بألف جنيه (في ذلك الزمن) لطبع أبحاثه. فكتب كتابه: «رحلة عالِم طبيعي». وطبّقت شهرته الآفاق، وأُثيرت حوله جدالات علمية لم تنتهِ إلى اليوم، ولن تنتهي. ودُفِن في مقبرة العظماء، في وِسْتمنستر قرب نيوتن. وما بين صائد الصراصير المتحوِّل إلى (بائع جوّال)... وقنّاص الذباب في مقبرة العظماء، تضيع عبقريات أطفالنا الموهوبين بين جهل بيوتنا، وتجاهل مدارسنا.

* شاعر وناقد سوري
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي