No Script

بوح صريح

الحل معرفي تنويري... كيف ولماذا (1 من 2)

تصغير
تكبير

تم سجن الراهب لويس دي ليون من القرن 16، أستاذ جامعة سلمنكا، على يد محاكم التفتيش لأكثر من 4 سنوات. وبعد خروجه، عاد ليكمل دروسه ويقول لطلابه في أول محاضرة بعد سجنه عبارته الخالدة: «كما ذكرنا بالأمس...»! كم يكمن في هذه العبارة تحدّ للمأساة، وترفّع عن دور البطولة الزائفة والخضوع!
‏«عندما تأتون لمكتبي وتجدونني جالساً لوحدي ومُطرقاً رأسي من دون حراك، فإياكم الظنّ بأني لا أعمل، بل إنني أفكّر، ولعمري إنّ هذا لعملٌ شاق»!
بات دويل، أستاذ مادة الفيزياء، مخاطبا طُلابه.


***
أتذكر معارضة أهلي لي. وسخرية الأقرباء والجيران مني حين اخترت الفلسفة كتخصص جامعي بعد تخرجي في الثانوية العامة، معلقين: الفلسفة ليست للبنات، فهي تخرب التفكير وتفسد العقل حين تحيد به عن الصواب بكثرة اللغط والأسئلة والشكوك. ثم أتذكر معارضة والدي لسفري إلى بريطانيا للتحضير للدكتوراه معلقاً: إن السفر لوحدي يسيء لسمعتي وسمعة العائلة. وقاطعني سنة كاملة بعد سفري. رافضاً الرد على مكالماتي.
ثم تكرر الموقف نفسه عند قرار إصدار أول كتاب. وإقامة أول معرض. وتطوير هواية أو طرح سؤال وإثارة نقاش أو بحث من أجل إيجاد الحقيقة. فكل هذه الممارسات للرجال... لماذا. لمجرد أنه ذكر. فذلك هو الامتياز الوحيد الذي يحتاجه. حتى لو كان جاهلاً أو يحمل تعليماً بسيطاً فهو أفضل من امرأة عالمة أو أستاذة جامعية. فهي «مرة» وهو رجل؛ الولي، الراعي، القوام، السيد.
يعطي المجتمع الرجل الضوء الأخضر لفعل وقول ما يشاء. فكل ما في المجتمع من حق الرجل: التفكير، البحث، السؤال، طرح المواضيع الجديدة وطرق أبواب الأسئلة الصعبة وكشف المسكوت عنه. أما أن تبحث المرأة وتكون سباقة فتلك:
1 - معضلة لا يحتملها المجتمع التقليدي ويرفضها، بل ويعاقب عليها. مهما كان متحضراً، متطوراً وحقوقياً بأمور ونواحٍ أخرى.
2 - تحدٍ، قد لا تحتمله ذكورة وكبرياء بعض مدعي الرجولة.
فالمجتمع العربي مقسم لمراتب وصفوف أولى وثانوية. الرجل في المقدمة، في الأمام. وهي في الخلف. وإن تجرأت بالتفكير أو حتى تخيلت أن تتقدم للأمام. فإن سوط الغضب والسخط والإنكار والإقصاء والعزل والتجميد الوظيفي ينهال عليها. من المرأة أولاً، التي تخاف فعلتها وتحسدها سراً عليها. ومن الرجل ثانياً، الذي أصبحت تنافسه. ومن المجتمع ومؤسسات الدولة ثالثاً، التي تتوقع خضوعها وخنوعها. وأخيراً من القطيع الذي نشأ وتربى على احتقار المرأة واعتبارها كائناً ثانوياً هامشياً.
حين سافرت إلى برمنغهام 1989 للتحضير للدكتوراه. كنت أعد لأطروحة الدكتوراه حول «جسد المرأة في الإسلام». ووقفت مذهولة أمام عشرات أمهات كتب الفلسفة والفقه واللغة الأصيلة خلف الزجاج في قسم الوثائق في المعهد الاسلامي المسيحي في أكسفورد. وكنت أتساءل: لماذا لا يوجد كتاب واحد بينها لامرأة باحثة في الفقه والشريعة. هل يعقل عدم وجود نساء مجتهدات في الشريعة، في تحليل الآيات والأحاديث. أم أن البحث حكر على الرجال.
وإن وجدنا كتاباً أو اثنين سيكون لنساء يرددن ما قاله الرجال أصلاً. حين نقرأ تحليل سورة النساء مثلاً على لسان الطبري أو البغوي وغيرهم، نشعر بالحاجة لقراءة وجهة نظر نسائية حتى تكتمل السورة والمعنى للآية، للقصة وللفحوى والهدف المنصوص عليه بالحكمة وراء السورة. هناك حاجة ماسة وضرورة قصوى لاقتحام المرأة لمجال البحث والتحليل والاجتهاد. في الشريعة والاجتماع والعلوم الإنسانية وغربلة العادات والتقاليد البالية بمشرط منهج التحليل لترسيخ أسس التفكير المنطقي الصحيح. استرجع هذه الأسئلة وانا استعد حالياً لإصدار الطبعة الأولى من اطروحتي تحت عنوان: جسد المرأة في القرآن.
أيضاً الكتابة في علم الأخلاق ومفهوم الخطأ وتشكيل الشخصية الأخلاقية وسط تلاطم أمواج العصر وتحديات الانفتاح ومواقع التواصل وغيرها مقتصرة في أغلبها على الرجل. لكن وجهة نظر المرأة الباحثة مختلفة ومنعشة، لأنها تضفي عليها من طبيعتها وخصوصية رأيها وتفرد نظرتها. كما أن دورها الأنثوي في الأسرة والمجتمع والأمة والدولة يمكنها من الحصول على مفاتيح الذكاء الخاصة للاقفال المناسبة التي تفك قيود فهم القضايا الحيوية لدى الرجل والجمهور والمجتمع ككل. لا بد أن تتجاوز المرأة القيود والعقبات وتقف فوق كل العراقيل لتمارس دورها كعقل مفكر.
وإن نظرنا للواقع فسنجد الظلم نفسه قد وقع على المرأة الباحثة في الغرب. فرغم كتابات سيمون دي بوفوار في الفلسفة. ومنجزها العبقري «الجنس الآخر»، إلا أن ظل يلاحقها لقب «حبيبة سارتر». فكل ما سجله التاريخ لها هو أنها كانت رفيقة جان بول سارتر وليست مفكرة وفيلسوفة بحد ذاتها. وهو ظلم كبير. وغيرها من أمثلة أخرى كثيرة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي