No Script

صخب على صخب

التجارة في الهواء

No Image
تصغير
تكبير

في مشهد من مسلسل «ليالي الحلمية»، جاء ناجي السماحي وهو أحد أقارب «علي البدري» ابن سليم باشا البدري، والذي تاجر في أموال والده، حتى أسس امبراطورية اقتصادية عملاقة، وسلك في تصعيدها طرقا مشروعة وغير مشروعة. استغاث «ناجي» بــ «علي»، أن ينقذ قريبا لهما، وقد كتب على نفسه شيكات بمبالغ ضخمة لأحد التجار كضمانة لخدمة فقط. وقد قدمها التاجر في صبيحة هذا اليوم إلى النيابة. فتساءل «علي البدري» عن اسم التاجر، وهو يعلم يقينا براءة القريب المسكين، وأنه لا يملك حسابات بنكية (ولا دياولو)، فأخبره «ناجي» عن اسم التاجر، فابتسم «علي»، وقال: إنه من تجار الهواء. فتساءل «ناجي» عن دلالة هذا الاسم. فقال علي: أبدا، هذا يخلّص المعاملات بالتلفونات، ويقدم الرشاوى نيابة عنا.
أي لا يظهر رجل الأعمال الأصلي في الصورة والعمولات، ولا يذكر اسمه في الاتهام إن تم؛ فتاجر الهواء يجيد الطبخ، ولا يترك وراءه إلا الهواء.
في المشهد التالي في المسلسل، كان تاجر الهواء جالسا في كباريه، وقد طيّر على الراقصات آلاف الجنيهات، ولا تعجب، فهي جاءت من الهواء، وتلقى في الهواء. اقترب منه أحد تابعيه، وأخبره أن «علي بك البدري» ينتظره في الخارج، لم يصدق التاجر، وطار من مكانه، فعلي البدري شخصية كبرى في عالم البيزنس. وصل التاجر للسيارة المرسيدس الفخمة، ففتح له علي البدري النافذة، وهو يتطلع بتعالٍ إلى التاجر الذي يبالغ في المديح، ويدعوه للدخول لقضاء سهرة حلوة، ويهاجم تجار الهواء الآخرين الذين يستعين بهم البدري.
لم يعلّق البدري، وإنما أمره مباشرة بعبارات قصيرة:»تعال غدا لنتفق على تخليص صفقات في ميناء الإسكندرية، في مقابل سحب شيكات (الهفق) من النيابة». تعجب التاجر، وتساءل عن العلاقة بين هذه وتلك.
أدار علي البدري محرك سيارته، وقال بتكبر وتجهّم:
- أنت ابن سوق يا معلم، وتعرف أن واحدة بواحدة. وقد تم له ما أراد في اليوم التالي.
***
عزيزي القارئ، ليس الهدف من هذا المقال تحذيرك من تجار الهواء، فلن يتعاملوا معك، مادمت فقيرا، إنهم طفيليون يعملون على هامش الأغنياء، أو يلعبون على ذوي المدخرات من الطبقة الوسطى.
وإنما الهدف أن تدرك أن الاحتيال نظام، يتقاسم كل محتال نصيبه من خارطة النصابين، حتى لو كانت قسمته التجارة في الهواء، فعليه أن يرضى بالمساحة التي أُجْبر على اللعب فيها، وإن تطلع لما هو أكبر- وكان طموحا- فليثق تماما- وأنت أيضا معه- أن الهواء سيكون عقابه، مثلما كان تجارة له. وهذا يتم بمنتهى البساطة، بأن يتم حرمانه من شبكات النصب التي أقامها.
***
الغريب في الأمر، أن مصطلح « تجّار الهواء» خرج من الأحياء الشعبية، وتناسب كثيرا مع ثقافة «الفهلوة والحداقة» التي يدّعيها بعض متحذلقي الدهاء والنصاحة. هؤلاء الجالسون على المقاهي أو الواقفون على النواصي وهم يتفاخرون على الشباب الساذج قائلين:»إحنا اللي عبّينا الهوا في أزايز». أي بعنا الهواء في زجاجات. وهي كناية- طبعا- عن قمة النصب والاحتيال.
إلا أن الطريف في الحكاية، ما حملته لنا الأخبار بأن هناك علبا محملة بالهواء يمكن الحصول عليها في مصر أيضا، وتحمل اسم «Fresh Icelandic Mountain Air» أي هواء أيسلندي جبلي منعش، وهي من إحدى شركات بيع المنتجات «الأيسلندية»، وقد عرضته عبر مواقع بيع منتجاتها العالمية، وتتيح شحنه إلى معظم دول العالم بما فيها مصر، مع خدمة «Delivery» أينما كنت. ومن أجل جذب المشترين قالت الشركة في دعايتها:»بدلا من السفر؛ جرّبْ هواء أيسلندا النظيف والطبيعي بدلا من هواء مدينتك الملوث «.
طبعا هؤلاء تجار هواء بالقول والفعل.
***
 أود ختاما أن أذكّرك بكلمات أغنية مسلسل ليالي الحلمية، مع تحوير بسيط فيها:
ومنين بييجي الشجن
من اختلاف الزمن
ومنين بييجي السواد
من الطمع والعناد
ومنين بييجي الهوا
من اقتناص الهوا
* كاتب وناقد مصري
mostafaateia@gmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي