No Script

عباقرة تحت العشرين (11) / قاد جيش المسلمين وهو ابن 18 عاما (1 من 2)

أسامة بن زيد... شجاعة قائد صغير

تصغير
تكبير
| القاهرة - من محمد عبدالفتاح |

خص الله بعض البشر بمواهب تميزهم عن غيرهم، وخواص فريدة تؤهلهم لأن يتفوقوا وأن يبدعوا في مجال ما، وعلى مر التاريخ، بدت قدرة الله تعالى واضحة، في براعم اصطفاهم بقدرات خارقة، ومواهب متفردة، نمت وترعرت وتوهجت، عندما وجدت تربة خصبة، وأجواء ملائمة ترحب بالإبداع وتعظم من شأنه، كما أن منها من لم تمنعه متاريس الجهل والتخلف وظروف الحياة الصعبة والقاسية، من البزوغ والظهور بقوة كشمس لا يحجب أشعتها حاجب.

وعلى مدى 15 حلقة، تغوص «الراي» في بحار العباقرة الصغار، الذين نضجت عقولهم مبكرا فأبدعوا في شتى مجالات الحياة سواء الفنية أو العلمية أو العسكرية وقدموا للبشرية خدمات جليلة واختراعات مميزة وهم دون العشرين عاما، لنعلم كيف تربوا، وكيف عاشوا، وكيف بزغت مواهبهم، وكيف تحدوا الصعاب وتغلبوا عليها، وكيف وكيف... ونتعرف عن قرب على ابتكاراتهم واختراعاتهم المميزة التي أفادت ولاتزال تفيد البشرية إلى يومنا هذا منذ أن كانت مجرد فكرة في أذهانهم إلى أن خرجت إلى النور ومراحل تطورها.

وهذه الحلقات ليس الغرض منها التسلية والترفيه في نهار شهر الصيام، ولكنها دروس بليغة، نتعلم منها كيف نكتشف الموهبة ونرعاها ونقدم لها العون والاهتمام، حتى نجني من ورائها المردود الطيب، كما نقدم هذه النماذج المشرفة لأبنائنا الصغار كي يستفيدوا منها ويتخذوا من هؤلاء العباقرة قدوة لهم، ونؤكد أن العباقرة الصغار أولى بالاهتمام والرعاية من سواهم أنصاف الموهوبين الذين يستحوذون على الاهتمام الأكبر والدعم المطلق رغم إسهاماتهم الهزيلة وغير المؤثرة في حياة البشر.

إننا في مجتمعاتنا العربية، نحتاج إلى مجتمع يهتم بمواهب أبنائه الصغار، بدلا من أن يجهد نفسه في تحطيمها بقصد أو من دون قصد؛ فلا يجني إلا فشلا وتدنيا وتأخرا وترهلا على كل المستويات... نحتاج منظومة بناء متكاملة متفاهمة، تعرف هدفها وترسم طريقها جيدا، وتنقب عن المواهب، وتسقيها بماء الحب والتقدير والاحترام والرعاية؛ لتعود إلينا بالخير والنماء، فالاهتمام بموهبة واحدة يعادل الاهتمام بعشر أو عشرين بل ألف من الشخصيات العادية التقليدي يعد الصحابي الجليل أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أصغر قائد عسكري في الإسلام، فقد شهد الرسول الكريم له بالولاية والقيادة ؛ لما لمسه فيه - رغم حداثة عهده- من عبقرية عسكرية فذة، جعلته جديرا بقيادة جيش المسلمين، ولم يكن أتم عامه الثامن عشر بعد!

في شهر صفر سنة 11 هجرية، جهز النبي صلى الله عليه وسلم، جيشا كبيرا كان من ضمنه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وغيره من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنه، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين.

فخرج الجيش ونزلوا الجرف على بعد فرسخ من المدينة بسبب مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأت الأخبار المقلقة ترد من المدينة عن اشتداد مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فاضطر الجيش إلى التريث حتى يعرفوا ما يقضي الله به.

وشاء الله تبارك وتعالى أن يلحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بعد ذلك بأيام، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، عظم الخطب، واشتد الحال، وظهر النفاق بالمدينة، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزكاة، وصارت الجمعة لا تقام في بلد سوى مكة والمدينة.

فلما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ألا ينفذ جيش أسامة للحاجة إليه فيما هو أهم، فامتنع أبوبكر الصديق رضي الله عنه من ذلك، وأبى أشد الإباء، وقال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة.

من هو؟

وأسامة بن زيد بن حارثة الكلبي - بحسب كتب السير القديمة والموسوعات العربية - كان أبوه مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف أسامة بـ « حب رسول الله».

ولد رضي الله عنه بمكة قبل الهجرة بـ7 سنوات، ونشأ حتى أدرك، ولم يعرف إلا الإسلام لله تعالى ولم يدن بغيره، وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان رسول الله يحبه حبا شديدا وكان عنده كبعض أهله.

في العام السادس من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وُلد لأمّ أيمن أسامة بن زيد، فنشأ وتربى رضي الله عنه وأرضاه في أحضان الإسلام ولم تنل منه الجاهلية بوثنيتها ورجسها شيئا، وكان رضي الله عنه قريبا جدا من بيت النبوة، وملازما دائما للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه حبا شديدا.. ففي البخاري بسنده عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه والحسن فيقول: «اللهم أحبهما فإني أحبهما».

بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحبِّ أسامة بن زيد رضي الله عنه.. فعن عائشة قالت: لا ينبغي لأحد أن يبغض أسامة بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان يحب الله ورسوله فليحب أسامة»، كان نقش خاتم أسامة بن زيد: (حب رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وقد زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن 15 سنة، وفي هذا الأمر ما فيه من العفة والطهارة وراحة النفس، والتفرغ لنصرة الإسلام، فهي تربية عالية من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

القائد الصغير

ولّى النبي صلى الله عليه وسلم أسامة قيادة جيش المسلمين المتوجه لغزو الروم في الشام، قال الواقدي في المغازي: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر مقتل زيد بن حارثة وجعفر وأصحابه ووجد عليهم وجدا شديدا، فلما كان يوم الاثنين لأربع ليالٍ بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وأمرهم بالانكماش في غزوهم. فتفرق المسلمون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مجدون في الجهاد فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر دعا أسامة بن زيد فقال: «يا أسامة سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك على هذا الجيش».

فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بدي برسول الله صلى الله عليه وسلم فصدع وحمّ. فلما أصبح يوم الخميس لليلة بقيت من صفر عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده لواء ثم قال: «يا أسامة اغز باسم الله في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا تمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم».

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة: «امض على اسم الله»، فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، فخرج به إلى بيت أسامة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فعسكر بالجرف وضرب عسكره في سقاية سليمان.

وقال رجال عدة من المهاجرين والأنصار قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش. وكان أشدهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة: «يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين؟»، فكثرت القالة في ذلك فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ذلك القول فرده على من تكلم به وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقول من قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد يا أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة بن زيد؟ والله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي».

وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أنفذوا بعث أسامة»، ودخلت أم أيمن فقالت أي رسول الله، لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل فإن أسامة إن خرج على حالته هذه لم ينتفع بنفسه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنفذوا بعث أسامة»، فمضى الناس إلى المعسكر فباتوا ليلة الأحد ونزل أسامة يوم الأحد، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يرفع يده إلى السماء ثم يصبها على أسامة. قال فأعرف أنه كان يدعو لي.

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمارته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده».

وعن الزهري قال: كان أسامة بن زيد يخاطَب بالأمير حتى مات يقولون: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلق أسامة قط إلا قال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، أمير أمره رسول الله، ثم لم ينزعه حتى مات.

ولقد أثبت أسامة رضي الله عنه في قيادة جيشه إلى الشام أنه ذو جَلَدٍ على تحمل المشاق، وذو شجاعة فائقة، وعقيدة راسخة، وعقلية راجحة متبصرة بالأحداث والنتائج، ما أكسبه سمعة عالية، وصيتا وشهرة كبيرة بين الصحابة، فقدروه وأحبوه، ولمسوا بأنفسهم مدى إصابة الحق في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم له في الإمارة.

الأثر العالمي

كان لهذا البعث أثر كبير في تثبيت وتوطيد دعائم الدولة الإسلامية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتداد الكثير من القبائل، وكان من شأنه أن ألقى الفزع والهلع في قلوب القبائل العربية التي مرَّ عليها في شمال الجزيرة العربية، وكانوا يقولون: لو لم يكن للمسلمين قوة تحمي المدينة وما حولها ما بعثوا جيشا إلى هذه المسافات البعيدة حتى وصل إلى تخوم الروم؛ ومن أجل ذلك كانت حركة الردة في تلك المناطق أضعف منها بكثير في أي من المناطق الأخرى.

اعتزل أسامة بن زيد رضي الله عنه الفتن بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سكن المزة غرب دمشق ثم رجع فسكن وادي القرى ثم نزل إلى المدينة فمات بها بالجرف.. وصحح ابن عبد البر أنه مات سنة 54 هـ، فيكون رضي الله عنه قد توفي عن 61 سنة.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي