No Script

التوبة

تصغير
تكبير
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ? وَتُوبُوا إلى اللهِ جميعاً أيُّهَا الْمُؤْمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?(النور:31)، وقال سيدنا رسول الله(ص): «التائبُ مِنَ الذنبِ كَمَنْ لا ذَنبَ لَهُ».

وقال مولانا قطب العارفين أمير المؤمنين (ع): «توبوا إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وادْخُلوا في مَحَبَّتِهِ».


فأولى الطرق الى الله و دخول الانسان في دائرة محبة الله سبحانه وتعالى هي التوبة، فهي محبوبة عند الله لقوله عزَّ وجلَّ: ? إنَّ اللهَ يحِبُّ التَّوّابينَ ? (البقرة:222)، وعن سيد الكائنات (ص): «ما شيء أحب الى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة».

وعن الباقر (ع): «إن من أحب عباد الله الى الله المفتتن التوّاب».

فعلاوة على أن التوبة «تَجب ما قبلها»، فإن للتائبين عند الله تعالى درجة ومنزلة لا يكاد يدانيهم في علوها أحد كيف لا وهي الفوز بحبه تعالى، وهل مقام أو مكانة أسمى وأرفع من ذلك.

والتوبة إلى الله بالمعنى اللغوي هي الرجوع إليه عن الذنب والمعصية رجوعاً قولياً وفكرياً وفعلياً، والرجوع القولي هو الإدامة على ذكر صيغة الاستغفار كأن يقول المستغفر «أستغفر الله ربي وأتوب إليه»، والرجوع الفكري هو العزم على عدم العود إلى ارتكاب المعصية والتفكر فيه والعلم بحقيقة التوبة واليقين بوجوبها والإسراع إليها فورا ومعرفة ضرر المعصية وما تؤول إليه من سخط الخالق وغضبه، وأما الرجوع الفعلي فهو ترك ما سبق من ارتكاب المعصية في المستقبل ورفع ظلمة القلب الناشئة عن تراكم أوساخ ما سلف من الذنوب وأدران ما مضى من المعاصي وتدارك ما فات بأنوار الطاعات والعبادات.

ووجوب التوبة عام لجميع الأشخاص ولكن كلٌّ مأمور بها حسب مقامه ومرتبته، فقد قال الصادق(ع): «التَّوبةُ حبْلُ اللهِ ومَدَدُ عنايتِهِ ولابدَّ للعَبْدِ من مُداوَمَةِ التوبةِ عَلى كلِّ حالٍ وكُلُّ فِرقةٍ من العباد لهم توبةٌ فتوبةُ الأنبياءِ من اضطرابِ السرِّ وتوبةُ الأولياءِ من تَلوينِ الخَطَراتِ وتوبةُ الأصفياءِ من التنفيسِ وتوبةُ الخاصِّ من الاشتغالِ بغيرِ اللهِ وتوبةُ العامِّ من الذنوب».

وأما مقامات التوبة فهي ثلاثة: الأول: الندم، الثاني: الاستغفار، الثالث: الحقيقة.

والتوبة من الذنوب والمعاصي والندم على ارتكابها لا تكون حقيقية وجادة ما لم تكن قائمة على الأسس التالية: أولا: العزم على ترك ما مضى من ارتكاب الذنوب والمعاصي في الحال، ثانيا: حفظ حالة الندم، ثالثا: العزم والجزم على عدم الرجوع إلى الذنب والمعصية في المستقبل، رابعا: تدارك ما فات من القصور والتقصير «أتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها».

وحينما يندم الإنسان من السلوك في طريق الذنوب والمعاصي والآثام لابد أن يرجع ويدخل في طريق آخر، فالرجوع علامة الندم.

وثاني مقامات التوبة الاستغفار وهو كما قال أمير المؤمنين(ع) درجة العليين وقال(ع) أيضا: «العَجَبُ مِمَّنْ يَقْنَطُ ومَعَهُ المِمْحاةُ» فقيل له: وما المِمْحاة؟! فقال(ع): «الاسْتِغْفارُ»، وأفضل ساعات الاستغفار الأسحار لقوله سبحانه وتعالى: ?وبالأسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرون?(الذاريات:18) وما ورد في قصة إخوة يوسف(ع) حينما اعترفوا بذنوبهم وطلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم فأخرهم إلى السَّحر لدليل على أن الدعاء والاستغفار مستجاب فيه.

وأما المقام الثالث من مقامات التوبة فهي الحقيقة، بمعنى أن الإنسان إذا علم علما يقينيا أن كل

ذنب سمٌّ هالك يؤثر على قلبه وإيمانه وعقيدته وأن ارتكاب الذنب يجعل بينه وبين الله سدا وحائلا فيندم ويستغفر ويرجع إلى الله هنالك يتبدل العلم واليقين إلى حقيقة راسخة في قلبه فلا يتفكر يوما أن يعود الإنسان إلى الذنب ثانية.

عن كميل بن زياد قال: قلت لأمير المؤمنين(ع): يا أمير المؤمنين العبد يصيب الذنب فيستغفر الله منه فما حد الاستغفار؟! قال: يا ابن زياد التوبة، قلت: بس؟! قال: لا، قلت: فكيف؟! قال: إن العبد إذا أصاب ذنبا يقول أستغفر الله بالتحريك، قلت: وما التحريك؟! قال: الشفتان واللسان يريد أن يتبع ذلك بالحقيقة، قلت: وما الحقيقة؟! قال: تصديق في القلب وإضمار ألا يعود إلى الذنب الذي استغفر منه، قال كميل: فإذا فعل ذلك فإنه من المستغفرين؟! قال: لا، قال كميل: فكيف ذاك؟! قال: لأنك لم تبلغ إلى الأصل بعد، فقال كميل: فأصل الاستغفار ما هو؟! قال: الرجوع إلى التوبة من الذنب الذي استغفرت منه وهي أول درجة العابدين!!

ومن آثار حقيقة التوبة تألم القلب على ما فات من البعد عن المحبوب والاحتجاب عنه والتأسف على ما صدر من المعاصي والذنوب، وهذا التألم هو عين الندم وحقيقته.

حينما ينظر الإنسان إلى محبوبه المجازي فهو ينظر إلى الوجود العيني الخارجي لهذا المحبوب والمعشوق فيحترق قلبه وترتعد فرائصه، وكذلك إذا وصل السالك إلى الله إلى الحقيقة وعاشها على الدوام يحترق قلبه شوقا ولا يفكر بالرجوع إلى الذنوب والمعاصي.

* الأمين العام للهيئة العالمية للفقه الإسلامي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي