No Script

بين صعود تيريزا ماي... وهزالة فرنسا

تصغير
تكبير
بدعوتها الى انتخابات مبكرة، تظهر تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية انّها تمتلك حسّا سياسيا مرهفا وبعد نظر، كما تعرف استغلال الفرص، بل انتهازها.

تعدّ تيريزا ماي بلدها، المملكة المتحدة، لما بعد الخروج من الاتحاد الاوروبي وللهزات التي يبدو انّ أوروبا ستتعرض لها قريبا، خصوصا في حال حصول مفاجأة كبيرة في فرنسا ووصول شخص يميني متطرف مثل مارين لوبن… او يساري ساذج مثل جان لوك ميلونشون الى قصر الاليزيه.


ما يجمع بين اليميني المتطرّف واليساري الساذج في فرنسا هو ذلك العداء للاتحاد الاوروبي والرغبة في الخروج منه، تماماً كما حصل في بريطانيا حيث صوّت أهل الريف مع «بريكست»، أي مع خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. فعلت أكثرية أهل الريف ذلك بسبب الجهل والشعارات التي أطلقها اليمين المتطرّف الذي صوّر للبريطانيين ان هناك موجة هجرة الى المملكة لا بدّ من وضع حد لها على وجه السرعة.

بعد قرارها إجراء انتخابات مبكرة في الثامن من يونيو المقبل، بدل الانتظار الى العام 2020، لم تعد ماي، التي خلفت ديفيد كاميرون في موقع رئيس الوزراء قبل أقلّ من سنة، تلك الشخصية السياسية التي لا طعم لها ولا رائحة والتي جاءت بها الصدفة الى السلطة. قرّرت أن تكون سياسيا ينقضّ على الفرص وان تبني زعامة خاصة بها، أي ان تقود حزب المحافظين الى انتصار انتخابي كبير مستفيدة قبل كلّ شيء من حال الانهيار التي يعاني منها حزب العمال بزعامة جيريمي كوربن.

يحصل ذلك فيما الحزب الثالث الذي كان في مرحلة معيّنة يلعب دورا على الساحة السياسية البريطانية، أي حزب الاحرار الديموقراطيين، في حال يرثى لها. أمّا اليمين المتطرف، فيبدو وكأنّ الأرض انشقت وبلعته بعد النجاح الذي حقّقه في الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي في يونيو من العام الماضي. دفع اليمين المتطرّف ثمن الأكاذيب التي أطلقها وشجّعت على تصويت الأكثرية بـ«نعم» للخروج من الاتحاد الاوروبي، من دون خطة واضحة لما بعد هذا الخروج المكلف.

لم تعد أوروبا، أوروبا. جاء خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي الذي استغرق بناؤه ستين عاماً ليوجه ضربة قوية إلى فكرة ربط الدول والشعوب الاوروبية ببعضها البعض عبر شبكة مصالح اقتصادية وسياسية وذلك كي تكون هناك على خريطة العالم قوة ذات وزن.

من الواضح أن ماي اتخذت قرارها ببناء زعامة سياسية باجراء الانتخابات المبكرة، فيما عينها على ما يجري في فرنسا أيضاً. تريد، على الصعيد الداخلي، امتلاك أكثرية مريحة والتخلّص من النواب المحافظين الذين ما زالوا يعادون الخروج من الاتحاد الاوروبي فضلا عن القضاء على فرص حزب العمال، المنقسم على نفسه اكثر من ايّ وقت، بالعودة الى الحكم.

تدرك رئيسة الوزراء البريطانية ان لا تماسك أوروبياً بعد الآن. انضمت المملكة المتحدة الى الاتحاد الاوروبي العام 1973 في وقت لم يكن أمامها من خيار آخر غير ركوب هذا القطار. كانت المملكة المتحدة تفقد في تلك المرحلة مواقعها على الخريطة العالمية بعدما انسحبت من منطقة الخليج ومن كلّ شرق السويس، بما في ذلك عدن (العام 1967) وباشرت إعادة تموضعها اقتصادياً. كان الخوف البريطاني الدائم من ذلك الحلف الألماني ـ الفرنسي الذي بدأ يتكوّن بعد حرب السويس في 1956 وجعل من المملكة المتحدة مجرّد تابع للسياسة الأميركية.

بعد خسارة بريطانيا وفرنسا حرب السويس التي لم تكن سوى مغامرة طائشة شاركتهما فيها إسرائيل، اتجهت فرنسا نحو أوروبا فيما لاذت بريطانيا بأميركا. أمّا إسرائيل ففهمت باكراً معنى خوض مثل هذا النوع من المغامرات من دون التنسيق الكامل مع الولايات المتحدة.

لا شكّ ان بريطانيا تحتاج حاليا الى زعيم قويّ فيما أوروبا كلّها وفرنسا على وجه الخصوص في مرحلة مخاض ليس معروفا كيف ستخرج منها. ففرنسا كانت دائماً في قلب أوروبا. راهن الفرنسيون باكرا على فكرة الاتحاد الأوروبي الذي بدأ باتفاقات ذات طابع اقتصادي في العام 1957 بين ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ودول الـ«بنيلوكس» الثلاث (بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ).

هناك نجم سياسي يصعد في بريطانيا. تأتي الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي موعد الدورة الاولى فيها الاحد المقبل لتزيد حاجة بريطانيا الى زعامة تنظم عملية الخروج من الاتحاد الاوروبي من جهة وتخلق دورا جديدا للمملكة المتحدة على صعيد الاقتصاد العالمي من جهة أخرى.

هناك مرشحون عدّة في الانتخابات الفرنسية. لا يمكن الاطمئنان الى ايّ من هؤلاء، باستثناء ايمانويل ماكرون، ربّما، الذي يبدو قادرا على انتشال الاقتصاد من حال الركود التي يعاني منها. لكن ماكرون اظهر في بعض المناسبات غيابا في النضج السياسي. من بين هذه المناسبات الكلام الذي صدر عنه خلال زيارة للجزائر وبدا فيه وكأنّه يعاني من عقدة معيّنة تجاه ذلك البلد الذي لم يحسن استغلال الفرص التي توفّرت له بعد الاستقلال. صحيح ان الاستعمار الفرنسي ارتكب جرائم في الجزائر، لكنّ الصحيح أيضا أنّ البلد مستقل منذ العام 1962 وأنّ من المعيب بقاء فرنسا أسيرة عقدة الجزائر بأي شكل من الاشكال وفي أي ظرف من الظروف.

في كلّ الأحوال، تبحث فرنسا عن زعيم يعيد الحياة إليها، كما يعيد الحياة الى الاتحاد الاوروبي، فيما وجدت بريطانيا زعيماً، بات معتمدا لدى الرئيس الاميركي دونالد ترامب وفي دول الخليج العربي. سيساعدها ذلك في مواجهة مرحلة الخروج من الاتحاد الاوروبي وإيجاد الفرص التي تسمح بالحدّ من الخسائر الناجمة عن «بريكست».

إذا كانت الانتخابات الرئاسية الفرنسية كشفت أمراً، فهي كشفت كم أن الطبقة السياسية الفرنسية هزيلة. يمكن ان يأتي الى الاليزيه رئيس معقول مثل فرنسوا فيون او ايمانويل ماكرون، كما يمكن أن يأتي شخص مثل مارين لوبن وحتّى اليساري ميلونشون. أيّا يكن هذا الرئيس الجديد، فإن فرنسا التي اضاعت فرصة آلان جوبيه لن تستعيد وزنها التاريخي قريباً، لا في أوروبا ولا خارج اوروبا. ستكون لازمتها انعكاسات قويّة على أوروبا كلّها. تلك هي الرسالة التي يبدو أن ماي تلقّفتها سريعا، فكانت دعوتها الى الانتخابات المبكرة التي يمكن ان تسمح لها بالبقاء في موقع رئيس الوزراء حتّى العام 2022...

الفارق بين فرنسا وبريطانيا ان الأولى في حال ضياع على كلّ صعيد، فيما الثانية تحاول التقاط أنفاسها. هناك سياسيون يصنعون الفارق دائماً. لا تزال فرنسا تبحث عن ضالتها منذ خرج جاك شيراك من الاليزيه قبل عشر سنوات، فيما يبدو ان بريطانيا وجدت في شخص تيريزا ماي منقذاً، أو مشروع منقذ، هي في أشدّ الحاجة إليه...
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي